تُعدّ التصريحات المتضاربة بين الصحافة الإسرائيلية والائتلاف الحكومي في إسرائيل ظاهرة بارزة تثير تساؤلات حول مصداقية المعلومات المنشورة، خاصة في سياق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. تتناول هذه الورقة أسباب هذا التضارب، وما إذا كانت هذه التناقضات ناتجة عن عوامل حقيقية أم جزء من استراتيجية مدبرة، مع التركيز على الأخبار المضللة وتأثيرها. كما تبحث في المصادر ذات المصداقية التي يمكن للإعلام العربي الاعتماد عليها لتقديم تغطية دقيقة ومحايدة.
أولاً: طبيعة التضارب بين الصحافة والائتلاف الحكومي
تشهد إسرائيل تضاربًا ملحوظًا بين الروايات التي تقدمها وسائل الإعلام والتصريحات الرسمية الصادرة عن الحكومة أو الائتلاف الحاكم. على سبيل المثال، خلال الحرب على غزة التي بدأت في 7 أكتوبر 2023، انتشرت تقارير إعلامية إسرائيلية ادّعت ارتكاب المقاومة الفلسطينية فظائع، مثل “قطع رؤوس الأطفال” في مستوطنة كفار عزة، ليتبين لاحقًا أن هذه الادعاءات لم تُدعم بأدلة رسمية، وتراجعت عنها مصادر حكومية.
في حالة أخرى، عارض وزير الدفاع السابق يوآف غالانت علنًا سياسات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، واصفًا بعض القرارات بـ”العار الأخلاقي” في تصريحات مسربة إلى الصحافة الإسرائيلية. هذا التضارب أدى إلى إقالته في نوفمبر 2024 ادعى فيها نتنياهو وجود “فجوات كبيرة” و”أزمة ثقة” في إدارة الحرب في غزة، مما أثار جدلاً حول انقسامات داخل الائتلاف الحاكم. هذه الأمثلة تُبرز كيف تُصبح التصريحات المتضاربة مصدرًا للارتباك، سواء داخل إسرائيل أو في التغطية الإعلامية العربية.
ثانيًا: أسباب التضارب في التصريحات
-
الانقسامات السياسية داخل الائتلاف الحكومي
يتكون الائتلاف الحاكم في إسرائيل من أحزاب ذات توجهات متباينة، مما يؤدي إلى اختلافات في الرؤى والمواقف. على سبيل المثال، خلال الأزمة الأوكرانية عام 2022، أصدرت الحكومة الإسرائيلية تصريحات متضاربة حول دعم العقوبات الغربية ضد روسيا بسبب ضغوط أمريكية واعتبارات دبلوماسية مع موسكو. هذه الانقسامات تُترجم إلى تصريحات متضاربة تتسرب إلى الصحافة، مما يُعزز انطباع الفوضى.

-
التعتيم الإعلامي والرقابة العسكرية
تفرض إسرائيل رقابة صارمة على المعلومات المتعلقة بالعمليات العسكرية، خاصة خلال الحروب. وفقًا لتقرير الجزيرة، تمارس إسرائيل تعتيمًا إعلاميًا لإخفاء خسائرها والجرائم المرتكبة في غزة ولبنان، مما يدفع الصحفيين إلى الاعتماد على مصادر غير رسمية أو تسريبات، ما يؤدي إلى تضارب المعلومات.

-
استراتيجيات الهاسبارا: الدعاية الإسرائيلية
تُعد “الهاسبارا” (الدبلوماسية العامة الإسرائيلية) أداة أساسية لتوجيه الرأي العام العالمي. تعتمد إسرائيل على نشر معلومات مضللة لتبرير أفعالها، كما حدث في نشر ادعاءات كاذبة عن فظائع المقاومة الفلسطينية. هذه الاستراتيجية تُنتج روايات متضاربة عندما تتراجع الحكومة عن ادعاءات لم تُثبت، مما يُعزز الشكوك حول مصداقية الإعلام الإسرائيلي.

-
الضغط الدولي والرأي العام
تتعرض إسرائيل لضغوط دولية متزايدة بسبب اتهامات بارتكاب جرائم حرب، مما يدفع الحكومة إلى تعديل تصريحاتها لتجنب المساءلة القانونية. على سبيل المثال، تراجعت الحكومة عن ادعاءات حول “فظائع” في غزة بعد عدم تقديم أدلة موثوقة، بينما استمرت الصحافة في تداول هذه الروايات لفترة أطول.
ثالثًا: هل التضارب مدبر أم حقيقي؟
التضارب كاستراتيجية مدبرة
الإلهاء والتشتيت: يُعتقد أن بعض التصريحات المتضاربة تُستخدم كجزء من حرب نفسية لإرباك الرأي العام وصرف الانتباه عن القضايا الأساسية. على سبيل المثال، نشرت وسائل إعلام إسرائيلية تقارير مبالغ فيها عن عمليات المقاومة الفلسطينية، لتُثبت لاحقًا أنها كاذبة، لكنها حققت تأثيرًا إعلاميًا مؤقتًا.
التأثير على السردية الدولية: تُستخدم التصريحات المتضاربة لاختبار ردود فعل الرأي العام العالمي. على سبيل المثال، روّجت إسرائيل لادعاءات حول أحداث 7 أكتوبر 2023، ثم تراجعت عنها بعد أن أثارت تعاطفًا دوليًا مؤقتًا.
إدارة الأزمات الداخلية: تُستخدم التسريبات للصحافة لتخفيف الضغط على الحكومة داخليًا. تصريحات غالانت المسربة، على سبيل المثال، كانت تهدف إلى كسب تأييد الجمهور الإسرائيلي المنتقد لسياسات نتنياهو.
التضارب كنتيجة حقيقية
الانقسامات الداخلية: الانقسامات الحقيقية داخل الائتلاف الحكومي، كما بين نتنياهو وغالانت، تُنتج تصريحات متضاربة تعكس صراعات السلطة.
ضعف التنسيق: غياب التنسيق بين المؤسسات الحكومية والإعلام يؤدي إلى نشر معلومات غير دقيقة. على سبيل المثال، أدى نقص الأدلة الجنائية حول ادعاءات 7 أكتوبر إلى تصريحات متضاربة بين الشرطة والجيش.
الضغط العسكري: في ظل حرب طويلة ومكلفة، كما في غزة، يزداد الارتباك بسبب الخسائر غير المتوقعة، مما يؤدي إلى تصريحات متناقضة لتغطية الفشل الميداني.
رابعًا: الأخبار المضللة ودورها في التضارب
تُعد الأخبار المضللة أحد أبرز العوامل التي تُغذي التضارب. وفقًا لتقرير مركز الزيتونة، روّجت وسائل إعلام إسرائيلية لادعاءات كاذبة حول “قتل أطفال” و”اعتداءات جنسية” خلال عملية طوفان الأقصى، ليتبين لاحقًا أن هذه الروايات افتقرت إلى الأدلة، مما أثار انتقادات دولية.
أمثلة على الأخبار المضللة:
🟥 ادعاءات كفار عزة: ادّعت مراسلة قناة i24News أن المقاومة الفلسطينية قتلت 40 رضيعًا، وهو ادعاء تبنته وسائل إعلام غربية قبل أن تتراجع عنه لعدم وجود أدلة.
🟥 رسالة سارة نتنياهو: ادّعت زوجة رئيس الوزراء أن مختطفة أنجبت طفلًا في الأسر، وهو ادعاء لم يُثبت، لكنه أُستخدم للتحريض ضد المقاومة.
هذه الأخبار المضللة تُعزز التضارب، حيث تُروج الصحافة لروايات مبالغ فيها بينما تتراجع الحكومة عنها لاحقًا لتجنب المساءلة القانونية.
خامسًا: مصداقية الإعلام العربي والمصادر الموثوقة
يواجه الإعلام العربي تحديات كبيرة في التعامل مع التضارب الإسرائيلي، حيث يُطالب بتقديم تغطية دقيقة وسط وفرة المعلومات المغلوطة. لضمان المصداقية، يجب الاعتماد على مصادر موثوقة ومحايدة:
المصادر ذات المصداقية العالية
منظمات دولية: تقارير الأمم المتحدة، منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش توفر بيانات موثقة حول انتهاكات حقوق الإنسان. على سبيل المثال، وثّقت هيومن رايتس ووتش سياسات الفصل العنصري الإسرائيلية.
صحفيون مستقلون: صحفيون مثل جيرمي سكاهيل من The Intercept يقدمون تحليلات معمقة بعيدًا عن الروايات الرسمية.
مراكز أبحاث فلسطينية: مركز الزيتونة ومدار للدراسات الإسرائيلية يقدمان تقارير موثقة تركز على الحقائق بعيدًا عن الدعاية.
وسائل إعلام محايدة: شبكة الجزيرة وصحيفة القدس العربي تُعتبران من المصادر ذات المصداقية نسبيًا، شريطة التحقق من الروايات التي ينقلونها.
شخصيات ذات مصداقية
لا يوجد شخص بعينه يمكن الاعتماد عليه كليًا، لكن شخصيات مثل المحققين الأمميين أو خبراء القانون الدولي (مثل المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيز) تُعتبر موثوقة بسبب حياديتها وتخصصها.
سادسًا: نصائح للإعلام العربي للتعامل مع التضارب
التحقق من المصادر: الاعتماد على مصادر متعددة ومقارنة الروايات لتجنب نشر معلومات مضللة.
تجنب الانحياز: الحفاظ على الحيادية عند تغطية التصريحات الإسرائيلية، مع التركيز على الحقائق.
رصد التضارب: تسليط الضوء على التناقضات بين التصريحات الحكومية والإعلامية كدليل على ضعف المصداقية.
استخدام التحليل النقدي: تحليل السياق السياسي والعسكري لفهم دوافع التضارب، سواء كانت مدبرة أو ناتجة عن فوضى.
يُعد التضارب بين الصحافة الإسرائيلية والائتلاف الحكومي ظاهرة معقدة تنبع من عوامل حقيقية (مثل الانقسامات السياسية وضعف التنسيق) واستراتيجيات مدبرة (مثل الهاسبارا وحروب السرديات). الأخبار المضللة تُفاقم هذا التضارب، مما يؤثر على مصداقية الإعلام الإسرائيلي داخليًا وخارجيًا. للإعلام العربي دور حاسم في مواجهة هذه التحديات من خلال الاعتماد على مصادر موثوقة مثل المنظمات الدولية ومراكز الأبحاث المستقلة، مع تبني نهج نقدي يرصد التناقضات ويفضح الدعاية. في نهاية المطاف، تُبرز هذه الظاهرة أهمية التحقق والحيادية في تغطية الصراعات المعقدة، لضمان تقديم الحقيقة بعيدًا عن التضليل.
منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز