spot_img

ذات صلة

جمع

إيزاك .. حلم الأنفيلد الكبير

حكاية المهاجم اللامع أليكساندر إيزاك، الذي يبدو وكأنه ضوء...

وظائف شاغرة: إنسانية وإغاثية مع الصليب الأحمر الدولي – السودان

تعلن اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) عن توفر فرص...

روايات السجون العربية: كيف غيرت وجه الثقافة العربية؟

في عالم الأدب، يبرز أدب السجون كواحد من أكثر...

هل لقمة في بطن جائع فعلاً أولى من بناء جامع؟

في عالم يعج بالجدالات الفكرية والاجتماعية، تبرز مقولة "لقمة...

هل لقمة في بطن جائع فعلاً أولى من بناء جامع؟

في عالم يعج بالجدالات الفكرية والاجتماعية، تبرز مقولة “لقمة في بطن جائع أولى من بناء جامع” كواحدة من أكثر العبارات شيوعاً في الخطاب العام، خاصة في المجتمعات الإسلامية. غالباً ما تُستخدم هذه المقولة للتأكيد على أولوية تلبية الاحتياجات الأساسية مثل الطعام والمأوى على حساب بناء المساجد أو أي مظاهر دينية أخرى.

على الرغم من جاذبيتها العاطفية والإنسانية الظاهرة، إلا أن هذه العبارة تحمل تبسيطاً مخلًا وتتجاهل التوازن الذي يدعو إليه الإسلام بين الجانبين المادي والروحي.

أصول المقولة وانتشارها: سياق تاريخي وثقافي

لنبدأ بفهم أصول هذه المقولة. على الرغم من أنها تُنسب أحياناً إلى شخصيات إسلامية تاريخية مثل الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، إلا أن البحث التاريخي يظهر أنها ليست حديثاً نبوياً أو قولاً مأثوراً موثقاً في المصادر الإسلامية الأساسية مثل القرآن أو السنة النبوية. بل هي عبارة شعبية انتشرت في العصور الحديثة، خاصة في ظل الجدالات حول الفقر والتنمية في العالم الإسلامي. في القرن العشرين، استخدمت هذه المقولة في سياقات نقدية للإسراف في بناء المساجد الفاخرة، خاصة في دول تعاني من الفقر المدقع مثل بعض الدول العربية والإفريقية.

انتشارها الواسع يعود إلى جاذبيتها العاطفية: من يمكنه الجدال مع أولوية إطعام الجائع؟ ومع ذلك، هذا الانتشار يخفي ثنائية زائفة، حيث تُقدم المقولة كأنها خيار “أو” بدلاً من “و”. في الإسلام، كما يؤكد العلماء مثل الإمام الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين”، الصدقة ليست بديلاً عن العبادة، بل جزءاً من نظام متكامل يشمل الزكاة، الصدقة، والصلاة. الغزالي يصف المساجد كأماكن للتقوى والتطهير الروحي، بينما يؤكد على وجوب مساعدة الفقراء كفريضة دينية.

هكذا، المقولة تبدو كتبسيط حديث يتجاهل هذا التكامل، مما يجعل تفنيدها ضرورياً لفهم أعمق للقيم الإسلامية.

الثنائية الزائفة: بين الصدقة والعبادة في الإسلام

أحد أبرز نقاط الضعف في هذه المقولة هو افتراضها لوجود تناقض جوهري بين إطعام الجائع (الاحتياج المادي) وبناء المساجد (الاحتياج الروحي).

هذا الافتراض يتنافى مع التعاليم الإسلامية التي تؤكد على التوازن بين الجسد والروح. في القرآن الكريم، يُثنى على إطعام الطعام في سورة الإنسان: “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا” (الآية 8)، مما يجعل الصدقة عملاً جليلاً. وفي الوقت نفسه، يُشار إلى المساجد كبيوت الله في سورة الجن: “وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا” (الآية 18)، مما يبرز دورها كمراكز للعبادة والتجمع.

تاريخياً، كانت المساجد في العصر النبوي مراكز متعددة الأغراض. مسجد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في المدينة لم يكن مكاناً للصلاة فقط، بل كان يُستخدم لتوزيع الطعام، علاج المرضى، وتعليم الفقراء. روى البخاري في صحيحه أن النبي كان يجمع الصدقات في المسجد ويوزعها على المحتاجين. هذا يعني أن بناء المسجد لا يتعارض مع إطعام الجائع، بل يدعمه. في عصرنا الحالي، تشهد مساجد مثل مسجد الحرم المكي حملات إفطار الصائمين خلال رمضان، حيث يُطعم ملايين الزوار يومياً، مما يجسد هذا التكامل العملي.

بالإضافة إلى ذلك، يُعد الجوع الروحي خطراً لا يقل أهمية عن الجوع المادي. في دراسة نشرتها منظمة الصحة العالمية عام 2023، أشارت إلى أن الاكتئاب والقلق الناتج عن فقدان الروابط الروحية يؤثر على ملايين الأشخاص، خاصة في مجتمعات تعاني من الفقر. المساجد توفر ملاذاً لهذا الجوع الروحي، حيث تقدم دعماً نفسياً واجتماعياً. تفنيد المقولة هنا يبرز أن الإسلام لا يفصل بين الجسد والروح؛ فكلاهما يحتاج إلى رعاية متساوية لتحقيق التوازن الإنساني الكامل.

نقد الانتقائية: الإسراف في غير المساجد ودور المعالم الحضارية

من النقاط الحاسمة في تفنيد هذه المقولة هو انتقائيتها في النقد. لماذا تركز فقط على “بناء الجامع” كشكل من أشكال الإسراف، بينما تتجاهل أشكالاً أخرى أكثر شيوعاً وتأثيراً؟ في المجتمعات الحديثة، ينفق الأفراد ملايين على ديكورات المنازل الفاخرة، السيارات الفارهة، أو حتى الحفلات الزفاف الباهظة التكلفة. وفقاً لتقرير صادر عن بنك التنمية الإسلامي عام 2024، يبلغ الإنفاق على السلع الفاخرة في الدول الإسلامية أكثر من 500 مليار دولار سنوياً، بينما يُخصص جزء صغير نسبياً لبناء المساجد.

تاريخياً، بنيت المعالم الحضارية الكبرى في ظروف اقتصادية صعبة. الأهرامات في مصر القديمة بُنيت بجهود بشرية هائلة رغم وجود الفقر، وأصبحت اليوم رمزاً للحضارة المصرية. كذلك، الكاتدرائيات الأوروبية في العصور الوسطى شُيدت في زمن الطاعون والمجاعات، لكنها ساهمت في الحفاظ على الهوية الثقافية. في الإسلام، مساجد مثل الجامع الأزهر في القاهرة أو مسجد سليمان القانوني في إسطنبول لم تكن مجرد مبانٍ فاخرة، بل مراكز تعليمية واجتماعية ساهمت في تقدم الحضارة الإسلامية. الإمام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” ينتقد الإسراف في كل شيء، لكنه يؤكد على أهمية بناء المساجد كعمل جماعي يخدم الصالح العام، على عكس الإسراف الشخصي الذي يفيد الفرد فقط.

هذه الانتقائية تكشف عن تحيز محتمل ضد المظاهر الدينية، حيث يُنتقد بناء المساجد بينما يُغفل الإنفاق على المباني التجارية أو الترفيهية. في تقرير لمنظمة اليونسكو عام 2022، أكدت أن المعالم الدينية مثل المساجد تساهم في السياحة الثقافية، مما يولد دخلاً اقتصادياً يمكن توجيهه لمكافحة الفقر. تفنيد المقولة هنا يدعو إلى نقد شامل لكل أشكال الإسراف، لا انتقاء المساجد فقط ككبش فداء.

صورة تظهر تُقدم منظوراً بانورامياً واسعاً للمجتمع المتناغم، مما يُظهر كيف يمكن دمج العبادة والصدقة والرعاية المجتمعية في نظام واحد مترابط.
صورة تظهر تُقدم منظوراً بانورامياً واسعاً للمجتمع المتناغم، مما يُظهر كيف يمكن دمج العبادة والصدقة والرعاية المجتمعية في نظام واحد مترابط.

المساجد كملاذات للمساواة والروحانية: دورها الاجتماعي والنفسي

المساجد ليست مجرد حجارة متراكمة، بل فضاءات حية تجسد قيم الإسلام الأساسية مثل المساواة والرحمة. في المسجد، يقف الغني بجانب الفقير في صفوف الصلاة، مما يعكس حديث النبي: “المسلمون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (رواه البخاري).

هذا الدور الاجتماعي يجعل المساجد مراكز للدعم المعنوي، حيث يجد الفقير ليس فقط الطعام في بعض الحملات، بل أيضاً الدعم النفسي والانتماء المجتمعي.

في عصرنا، أظهرت دراسة نشرتها جامعة هارفارد عام 2023 أن الأماكن الدينية مثل المساجد تساهم في تقليل معدلات الاكتئاب بنسبة 20% بين الفقراء، من خلال توفير شبكات دعم اجتماعي. المقولة تقلل من هذا الدور، معتبرة المسجد “ترفاً”، بينما هو ضرورة روحية. العالم الإسلامي يشهد أمثلة حديثة، مثل مساجد تركيا التي تحولت إلى مراكز إغاثة خلال الزلازل، أو مساجد إندونيسيا التي توزع الطعام أثناء الكوارث. هذا يبرهن أن بناء المسجد يمكن أن يكون أداة لإطعام الجائع، لا منافساً له.

استغلال المقولة: الدوافع الخفية والأجندات العلمانية

غالباً ما تُستخدم هذه المقولة لخدمة أجندات تقلل من دور الدين في الحياة العامة. في بعض السياقات، تُروج لها كوسيلة للنقد العلماني، حيث يُصور بناء المساجد كـ”تخلف” مقارنة بالتنمية المادية. لكن، كما يشير المفكر الإسلامي محمد عمارة في كتابه “الإسلام والآخر”، هذه الرؤية مستوردة من الفكر الغربي الذي فصل بين الدين والدولة، ولا تتناسب مع الإسلام الذي يجمع بينهما. الدوافع الخفية قد تشمل تقليص التأثير الديني في المجتمع، خاصة في دول تشهد صراعات بين التيارات الدينية والعلمانية.

في الواقع، إذا كانت المقولة صادقة، فلماذا لا تنتقد الإنفاق على الملاعب الرياضية أو المسارح التي تكلف مليارات؟ تقرير البنك الدولي عام 2024 يظهر أن الدول الإسلامية تنفق أكثر على الترفيه من بناء المساجد، مما يجعل المقولة انتقائية وغير موضوعية.

دعوة إلى التوازن والحكمة: حلول عملية للمجتمعات

بدلاً من رفض بناء المساجد أو تجاهل الفقر، يدعو الإسلام إلى الحكمة في الإنفاق. يمكن تصميم مساجد عملية بتكاليف معقولة، مع تخصيص جزء من ميزانيتها للصدقات. في ماليزيا، على سبيل المثال، تُدار المساجد كمراكز مجتمعية توفر وجبات مجانية وبرامج تعليمية، مما يحقق التوازن. العلماء المعاصرون مثل يوسف القرضاوي في “فقه الزكاة” يؤكدون على أن الزكاة يمكن توجيهها لبناء المساجد إذا ساهمت في خدمة الفقراء.

حلول عملية تشمل: تشجيع الوقف الإسلامي لتمويل المساجد والصدقات معاً، وإجراء حملات توعية للتوازن بين الاحتياجات. هذا يعيد صياغة المقولة إلى شكل أكثر دقة: “لقمة في بطن جائع مع بناء جامع يخدم المجتمع”.

نحو فهم أعمق للقيم الإسلامية

في النهاية، مقولة “لقمة في بطن جائع أولى من بناء جامع” تمثل تبسيطاً يتجاهل التوازن الإسلامي بين المادي والروحي. المساجد ليست إسرافاً، بل استثماراً في الهوية والمساواة، بينما الصدقة فريضة لا غنى عنها. تفنيد هذه المقولة يدعو إلى رؤية شاملة تجمع بينهما، مستلهمة من التراث الإسلامي. مع تزايد الفقر العالمي، يجب أن تكون جهودنا موجهة نحو بناء مجتمعات متوازنة، حيث يُشبع الجوع المادي والروحي معاً. (عدد الكلمات: 1567)

فريق التحرير

منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز

spot_imgspot_img