في ظل أزمة إنسانية خانقة يشهدها قطاع غزة منذ أكثر من عشرين شهراً، وتفاقم كارثة المجاعة التي تهدد حياة أكثر من 2.1 مليون فلسطيني، برزت على السطح مؤخراً آلية الإنزالات الجوية للمساعدات كحل مزعوم لتخفيف المعاناة. لكن التوقيت والسياق السياسي بات يطرح تساؤلات جوهرية حول الدوافع الحقيقية وراءها، خاصة في ضوء الحراك العالمي المتصاعد ضد سياسات التجويع الممنهج التي تمارسها إسرائيل.
منذ إحكام الحصار في مارس 2025 ومنع دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، تصاعدت الأصوات المطالبة بالتدخل العاجل لإنقاذ السكان من المجاعة المحققة. تؤكد منظمة الصحة العالمية أن الوضع في غزة “كارثي” وأن مليوني شخص يعانون الجوع، بينما تشير التقارير الدولية إلى أن 96% من السكان يواجهون انعداماً حاداً للأمن الغذائي.
السياق السياسي: الضوء الأخضر الأمريكي والتصعيد المبرمج
يأتي قرار السماح بالإنزالات الجوية في سياق سياسي معقد، حيث منحت الإدارة الأمريكية إسرائيل ضوءاً أخضر للتصعيد العسكري في غزة، مع وضع سقف زمني محدد لا يتعدى أسابيع. كشفت مصادر سياسية في تل أبيب أن الرئيس دونالد ترمب حدد إطاراً زمنياً ضيقاً لهذه المهمة، بينما يتحدث الإسرائيليون عن عملية حربية قد تستغرق شهوراً أو حتى سنتين كاملتين.
هذا التناقض في التوقعات الزمنية يكشف عن تعقيدات السياسة الأمريكية تجاه الصراع، حيث تسعى واشنطن إلى الموازنة بين دعمها المطلق لإسرائيل وإدارة الضغوط الدولية المتزايدة. فقد اتهم الرئيس الأمريكي حركة حماس بعدم الرغبة في إبرام اتفاق، قائلاً: “أعتقد أنهم يريدون الموت”، في محاولة لتبرير الاستمرار في الحرب وتحميل المقاومة مسؤولية فشل المفاوضات.
الدور الوظيفي للأردن والإمارات: خدمة المشروع الإسرائيلي
في هذا السياق، تطوعت كل من الأردن والإمارات للقيام بدور وظيفي حيوي في خدمة الآلة الإسرائيلية من خلال المشاركة في عمليات الإنزال الجوي. هذا الدور يكتسب بعداً خاصاً عندما ندرك أن هذه المساعدات تأتي في جزء كبير منها من بضائع إسرائيلية، مما يخلق مفارقة مؤلمة: الجلاد والضحية في آن واحد.
أعلن وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد عن استئناف بلاده لعمليات الإسقاط الجوي للمساعدات “بشكل فوري”، مؤكداً أن بلاده “ستواصل تقديم الدعم الإغاثي لمن هم في أمسّ الحاجة إليه براً وجواً وبحراً”. لكن هذا الإعلان يأتي في وقت تواصل فيه الإمارات علاقاتها الطبيعية مع إسرائيل، مما يثير تساؤلات حول حقيقة هذا “الدعم”.
من جهته، يواصل الأردن لعب دوره التقليدي كحارس للمصالح الإسرائيلية في المنطقة، حيث كشفت فضيحة مزعومة حول “كسر حصار غزة” أن النظام الأردني لم يُدخل أي مساعدات حقيقية إلى القطاع، وأن ما جرى مجرد “حملة إعلامية رخيصة” لامتصاص الغضب الشعبي. تؤكد المصادر المحلية في غزة أنه لم تدخل أي مساعدات حقيقية من الأردن إلى القطاع، رغم الحملة الإعلامية الضخمة التي رافقت إعلان إرسال المساعدات.
آلية التضليل: امتصاص الغضب وتبييض الصورة
تأتي الإنزالات الجوية كاستجابة مبرمجة للحراك الشعبي والسياسي المتصاعد ضد المجاعة الإنسانية في غزة. فقد شهدت الأيام الماضية حراكاً عالمياً قوياً ضد سياسات التجويع، مما دفع إلى تصاعد لغة الخطاب الرسمية الغربية حول الأمر. في هذا السياق، كان لا بد من خديعة ماكرة لامتصاص هذا الغضب واحتوائه وإخماد موجة الحراك الجديدة.
تشير التقارير إلى أن إسرائيل تخطط لتغيير جذري في آلية إيصال المساعدات عندما تبدأ السماح بدخولها مجدداً، بحيث تبتعد عن نموذج التوزيع بالجملة والتخزين المركزي، وتلجأ بدلاً من ذلك إلى قيام منظمات دولية ومتعاقدين أمنيين خاصين بتسليم صناديق غذاء مباشرة إلى العائلات. هذا النهج يهدف ظاهرياً إلى منع استيلاء حماس على المساعدات، لكنه في الواقع يمنح إسرائيل السيطرة الكاملة على عملية التوزيع.
المخاطر الحقيقية للإنزالات الجوية: مأساة إنسانية إضافية
لا تقل الإنزالات الجوية خطورة عن سياسة المنع الكامل للمساعدات، فقد تسببت في الماضي في وفيات عديدة إثر سقوطها على المدنيين. هذه الآلية البدائية والخطيرة تحول عملية الحصول على الغذاء إلى مشهد مهين يذكر بإلقاء الطعام للحيوانات، حيث لا يحصل على المساعدات سوى القادرين على الجري والعراك، بينما يُحرم منها الأطفال والمسنون والمرضى والضعفاء.
تدفع هذه الآلية الناس للاعتداء على بعضهم البعض، وربما قتل بعضهم البعض، في مشاهد تنتهك الكرامة الإنسانية وتزيد من معاناة شعب محاصر ومجوّع. كما حدث فعلاً في أول إنزال جوي شمال غزة، حيث شهدت المنطقة مشاهد مؤلمة من التدافع والفوضى والإذلال.
الإطار الاستراتيجي الأوسع: التمهيد للتهجير والإبادة
عندما نضع قضية الإنزالات الجوية في سياق أحداث الأيام الماضية وفشل جولة التفاوض الأخيرة7، يمكن القول إن هذه الإنزالات جاءت إما بمقابل ضوء أخضر من بعض الدول العربية – خاصة دولتي الإنزالات – لاستمرار الإبادة والتمهيد للتهجير، أو أنها تضليل لشيء ما تدبره إسرائيل بعلم أو مشاركة الولايات المتحدة.
تشير الدلائل إلى أن إسرائيل تنفذ حالياً خطة “الجنرالات” التي تهدف إلى السيطرة على شمال قطاع غزة عبر تهجير سكان المنطقة نحو الجنوب، ثم فرض حصار محكم على الشمال يشمل منع إدخال الإمدادات الغذائية والماء والوقود، واستخدام التجويع أداة للضغط لدفع السكان نحو التهجير. في هذا السياق، تأتي الإنزالات الجوية كأداة لتهدئة الضمير العالمي وإعطاء انطباع بأن “شيئاً ما يُفعل” لمساعدة السكان.
التطورات الميدانية والضغوط الدولية
على الصعيد الميداني، تواصل إسرائيل عملياتها العسكرية المكثفة في مختلف أنحاء القطاع، حيث استشهد 85 فلسطينياً في قصف إسرائيلي على مناطق متفرقة منذ فجر يوم واحد فقط13. كما تشهد مناطق شمال القطاع، خاصة جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، عمليات تهجير قسري واسعة تحت وطأة القصف المكثف.
في المقابل، تتصاعد الضغوط الدولية على إسرائيل، حيث تحذر منظمة الصحة العالمية من أن الوضع في غزة “كارثي” وأن النظام الصحي في “حالة سقوط حر”. كما أكدت الأمم المتحدة أنها لن تشارك في أي مبادرة تنتهك المبادئ الإنسانية وترفض الخطة الإسرائيلية لتولي عمليات الإغاثة في القطاع.
البعد الاقتصادي والسياسي للمساعدات
يكشف تحليل طبيعة المساعدات المقدمة عبر الإنزالات الجوية عن بعد اقتصادي مهم، حيث تشكل هذه المساعدات في جزء كبير منها بضائع إسرائيلية أو تمر عبر القنوات الإسرائيلية. هذا الأمر يحول المساعدات الإنسانية إلى أداة اقتصادية تخدم الاقتصاد الإسرائيلي، بينما تمنح إسرائيل صورة “الدولة الإنسانية” التي تسمح بإدخال المساعدات رغم “تهديد الإرهاب”.
كما تلعب هذه المساعدات دوراً في تثبيت الوضع الراهن وإطالة أمد المعاناة، حيث تمنع انهياراً كاملاً قد يؤدي إلى ضغوط دولية أكبر لوقف الحرب، بينما تبقي السكان في حالة بقاء على قيد الحياة دون إنهاء معاناتهم الحقيقية.
الأبعاد النفسية والاجتماعية
تترك آلية الإنزالات الجوية آثاراً نفسية واجتماعية مدمرة على السكان، حيث تحول عملية الحصول على الغذاء إلى مشهد من الفوضى والإذلال. هذا التحويل المقصود لعملية إنسانية أساسية إلى مشهد حيواني يهدف إلى كسر الإرادة الشعبية وتدمير النسيج الاجتماعي، بحيث يصبح الناس منشغلين بالبحث عن لقمة العيش بدلاً من المقاومة والصمود.
كما تخلق هذه الآلية حالة من التبعية النفسية، حيث يصبح السكان في انتظار دائم لما قد يُلقى عليهم من السماء، بدلاً من المطالبة بحقهم الأساسي في الحصول على الغذاء والمساعدات بكرامة وانتظام.
التلاعب الإعلامي والدعائي
تستغل إسرائيل والدول المشاركة في الإنزالات الجوية هذه العمليات لأغراض دعائية واسعة، حيث تُصور على أنها “عمليات إنسانية نبيلة” تهدف إلى “إنقاذ المدنيين الأبرياء”. هذا التلاعب الإعلامي يهدف إلى صرف الانتباه عن الأسباب الحقيقية للمجاعة، وهي السياسة الإسرائيلية المنهجية لمنع وصول المساعدات والحصار الخانق المفروض على القطاع.
كما تساعد هذه الآلية في تبرير استمرار الحرب، حيث تقدم على أنها “حل إنساني” يمكن من خلاله الاستمرار في العمليات العسكرية دون التسبب في كارثة إنسانية كاملة. هذا التبرير المضلل يخدم السردية الإسرائيلية التي تدعي أنها تحارب “الإرهاب” وليس المدنيين.
التأثير على الرأي العام العربي والدولي
تهدف الإنزالات الجوية إلى تهدئة الرأي العام العربي والدولي الغاضب من مشاهد المجاعة والموت في غزة. فمن خلال إظهار أن “شيئاً ما يُفعل” لمساعدة السكان، تسعى الآلة الدعائية الإسرائيلية والغربية إلى امتصاص الغضب وتقليل الضغوط المطالبة بوقف الحرب.
هذا التلاعب النفسي يعتمد على استغلال الشعور الإنساني الطبيعي بالراحة عندما نرى أن “مساعدة ما تصل”، دون النظر إلى كون هذه المساعدة غير كافية ومهينة ومضرة في نفس الوقت. كما يعتمد على خلق وهم بأن هناك “جهود دولية جدية” للتعامل مع الأزمة.
استراتيجية متكاملة للخداع والإبادة
في الخلاصة، تمثل الإنزالات الجوية على غزة جزءاً من استراتيجية متكاملة تهدف إلى تحقيق عدة أهداف في آن واحد: امتصاص الغضب العالمي، وتبييض صورة إسرائيل والدول المتواطئة معها، وإطالة أمد المعاناة الفلسطينية دون إحداث انهيار كامل قد يؤدي إلى تدخل دولي حقيقي، والتمهيد لمشاريع أكبر كالتهجير القسري أو التقسيم النهائي للقطاع.
هذه الاستراتيجية تكشف عن مستوى متقدم من التخطيط الإجرامي، حيث يتم استخدام العمل الإنساني نفسه كأداة لخدمة مشروع الإبادة والتطهير العرقي. إنها تجسد بوضوح كيف يمكن للجلاد أن يتخفى وراء قناع الإنسانية ليواصل جرائمه بصمت الضمير العالمي.
إن فهم هذه الآليات ضروري لكشف زيف الادعاءات الإنسانية وفضح حقيقة ما يجري في غزة، والمطالبة بحلول حقيقية تتمثل في رفع الحصار كاملاً وإدخال المساعدات بكميات كافية وبطريقة تحفظ كرامة الإنسان الفلسطيني. أما الإنزالات الجوية، فهي في جوهرها مساهمة في جريمة التجويع الممنهج، وليس حلاً لها.
الشعب الفلسطيني في غزة لا يحتاج إلى صدقات تُلقى عليه من السماء كما تُلقى على الحيوانات، بل يحتاج إلى حقه الأساسي في الحياة والكرامة والحرية. وهذا الحق لا يمكن تحقيقه إلا بإنهاء الاحتلال والحصار، وليس بمسرحيات إنسانية تخدم في النهاية مشروع الإبادة والتطهير العرقي.
منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز