في تصريح مثير للجدل أدلى به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اليوم، أعرب فيه عن قلقه إزاء الوضع في قطاع غزة، مستنداً إلى ما يشاهده على شاشات التلفاز. قال ترامب: “استناداً إلى التلفاز، يبدو أن الأطفال جائعون جدًا. نريد وقفًا لإطلاق النار في قطاع غزة. يجب أن يتغير نسق القتال في غزة الآن، فقد دفعت ثمن ما قامت به. يجب أن ينعم الأطفال بالغذاء والأمان على الفور في قطاع غزة”.
هذا التصريح، الذي جاء في سياق اجتماعه مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في منتجعه للغولف في تورنبري باسكتلندا، يثير تساؤلات عميقة حول صلاحيات الرئيس الأمريكي وآليات عمله. كيف يمكن للرئيس، الذي يُعتبر “أقوى رجل في العالم”، أن يعتمد على التلفاز لفهم أزمة دولية معقدة مثل غزة، بدلاً من الاستفادة من جهاز استخباراتي هائل وفريق من الموظفين المتخصصين؟ هل هذا يعكس فشلاً في النظام، أم هو دليل على سياسة خارجية تفتقر إلى العمق والمسؤولية؟
صلاحيات الرئيس الأمريكي: قوة هائلة في السياسة الخارجية
يمنح الدستور الأمريكي، وفقاً للمادة الثانية، الرئيس صلاحيات واسعة في مجال السياسة الخارجية، تجعله القائد الأعلى للقوات المسلحة وقائد الدبلوماسية الوطنية. يمكنه توقيع المعاهدات الدولية (بموافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ)، تعيين السفراء والمسؤولين التنفيذيين، وإصدار أوامر تنفيذية تؤثر مباشرة على السياسات الخارجية دون الحاجة إلى موافقة الكونغرس في بعض الحالات.
على سبيل المثال، يمكن للرئيس إرسال قوات عسكرية إلى الخارج لمدة تصل إلى 30 يوماً دون موافقة الكونغرس، وهو ما يمنحه مرونة هائلة في التعامل مع الأزمات الدولية. في حالة غزة، يمكن لترامب، كرئيس، أن يؤثر على تدفق المساعدات، أو يضغط على الأطراف المعنية من خلال الدبلوماسية أو حتى التهديدات الاقتصادية، مستفيداً من نفوذ الولايات المتحدة كأكبر داعم لإسرائيل.
لكن هذه الصلاحيات لا تُمارس في فراغ. الرئيس مدعوم بجهاز هائل من المؤسسات، بما في ذلك وزارة الخارجية، التي تنفذ سياساته وتوفر له تقارير دبلوماسية يومية. بالإضافة إلى ذلك، يعتمد الرئيس على مجتمع الاستخبارات الأمريكي، الذي يضم 18 وكالة رئيسية، مثل وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) ووكالة الأمن القومي (NSA)، للحصول على معلومات دقيقة ومفصلة عن الأوضاع العالمية. هذه الوكالات تقوم بجمع البيانات من مصادر متعددة، بما في ذلك الاستخبارات التقنية، الجوية، والإنسانية، وتقدمها في شكل “إيجاز يومي” للرئيس، يغطي كل شيء من التهديدات الأمنية إلى الأوضاع الإنسانية. في سياق غزة، يمكن لهذه الوكالات توفير تقارير حية عن الجوع، الدمار، والاحتياجات الإنسانية، مستندة إلى بيانات من الأقمار الصناعية، الجواسيس، والتعاون مع الحلفاء.
الاعتماد على التلفاز: فشل في الاستفادة من الآليات الرسمية
السؤال المركزي هنا: لماذا يعتمد ترامب على “التلفاز” لمعرفة أن الأطفال في غزة جائعون، بينما يمتلك أكبر جهاز استخباراتي في العالم؟ هذا الاعتماد يبدو غريباً، إن لم يكن مهيناً، لمؤسسات مثل الـCIA، التي تُعتبر الوكالة الوحيدة المخولة بتنفيذ عمليات سرية بناءً على طلب الرئيس.
الـCIA، على سبيل المثال، تمارس نفوذاً سياسياً أجنبياً من خلال أقسامها التكتيكية، وتجمع معلومات عن الحكومات الأجنبية والأفراد، مما يجعلها قادرة على تقديم تحليلات دقيقة عن أزمات مثل غزة.
كذلك، وكالة الأمن القومي تراقب الاتصالات الإلكترونية العالمية، ويمكنها التقاط بيانات عن الوضع الإنساني في المناطق المحاصر.
هذا النهج يذكرنا بتاريخ السياسة الأمريكية، حيث اعتمد بعض الرؤساء على وسائل الإعلام لتشكيل آرائهم، لكنه يبرز فشلاً في النظام الحالي. في عهد ترامب، شهدنا استخداماً مكثفاً للأوامر التنفيذية لتجاوز الكونغرس، لكن هنا يبدو الأمر كأنه تجاهل متعمد للمعلومات الرسمية.
هل يتطلب الأمر تلفازاً لمعرفة الواقع؟ بالطبع لا، الرئيس يتلقى “الإيجاز اليومي” من مكتب مدير الاستخبارات الوطنية، الذي يدمج معلومات من جميع الوكالات لتقديم صورة شاملة. في حالة غزة، يمكن أن يشمل هذا الإيجاز تقارير عن المجاعة، الخسائر البشرية، والتأثيرات الإقليمية، مستندة إلى مصادر موثوقة مثل وكالة استخبارات الدفاع أو المركز الوطني للاستخبارات الطبية.
هذا الاعتماد على التلفاز ليس بريئاً. إنه يعكس سياسة خارجية تعتمد على الإعلام الشعبي، الذي غالباً ما يكون متحيزاً أو غير دقيق، خاصة في تغطية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ترامب نفسه أكد في تصريحات سابقة أن وقف إطلاق النار “ممكن”، وأن إسرائيل تواجه قراراً مصيرياً، لكنه لم يقدم خططاً ملموسة، مما يجعل تصريحه يبدو كمحاولة للظهور إنسانياً دون التزام حقيقي.
هذا النهج يضعف مصداقية الولايات المتحدة كوسيط دولي، ويثير تساؤلات عن “الدولة العميقة” – تلك الشبكة من المؤسسات الاستخباراتية والعسكرية التي تؤثر على السياسات بعيداً عن الرأي العام. إذا كان الرئيس يتجاهل هذه المؤسسات، فمن يدير السياسة الخارجية فعلياً؟
تحليل عميق: التداعيات على غزة والشرق الأوسط
لنغوص أعمق في التداعيات. غزة، التي تعاني من حصار مستمر وحرب مدمرة، تحتاج إلى تدخل دولي حقيقي، لا تصريحات تلفزيونية.
وفقاً لتقارير دولية، يعاني ملايين الأطفال في غزة من الجوع الشديد، مع ارتفاع معدلات سوء التغذية إلى مستويات كارثية. ترامب يعترف بهذا، لكنه يربطه بالتلفاز، مما يقلل من جدية الأمر. لو اعتمد على الاستخبارات، لكان قد علم بتفاصيل دقيقة عن كيفية تأثير السياسات الأمريكية – مثل الدعم العسكري لإسرائيل – على هذا الوضع. الولايات المتحدة تقدم مساعدات عسكرية سنوية تصل إلى مليارات الدولارات لإسرائيل، ويمكن للرئيس استخدام صلاحياته لربط هذه المساعدات بشروط إنسانية، مثل تسهيل دخول المساعدات إلى غزة.
هذا النهج يعكس أزمة أكبر في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. تاريخياً، اعتمدت الإدارات الأمريكية على الاستخبارات لإدارة الأزمات، كما في حالة الحرب الباردة أو الغزو العراقي. لكن في عهد ترامب، نرى تحولاً نحو السياسة الشخصية، حيث يصبح التلفاز مصدراً للمعلومات، مما يفتح الباب للتأثيرات الخارجية مثل اللوبيات الإسرائيلية أو الإعلام المحافظ. هذا يضعف دور الكونغرس، الذي يمكنه الاعتراض على سياسات الرئيس، لكنه غالباً ما يفشل في ذلك بسبب الضغوط السياسية.
نحو سياسة خارجية أكثر مسؤولية
في الختام، تصريح ترامب يكشف عن خلل في نظام يفترض أنه الأكثر تطوراً في العالم. الرئيس لديه صلاحيات هائلة، مدعومة بجهاز استخباراتي يجمع بيانات من كل زاوية، لكنه يختار التلفاز كمصدر. هذا ليس مجرد خطأ، بل هو إهانة للشعب الفلسطيني الذي يعاني، وللمؤسسات الأمريكية التي تنفق مليارات على الاستخبارات. لتحقيق وقف إطلاق نار حقيقي في غزة، يجب على على ترمب على الأقل الاعتماد على المعلومات الرسمية، واستخدام صلاحياته للضغط على الأطراف، ودعم المساعدات الدولية كما وعد بالضغط على الاتحاد الأوروبي.
إن لم يفعل، فسيظل الشرق الأوسط رهينة لسياسات عشوائية، تعتمد على شاشات التلفاز بدلاً من الحقائق.
صحفي فلسطيني من غزة – كاتب بالشأن السياسي والعسكري بمنصة الواقع العربي، كما أملك خبرات بالتصميم الفني والإبداعي