تقف سوريا اليوم عند مفترق طرق حاسم في تاريخها المعاصر، حيث تواجه الإدارة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع تحديات جسيمة تتراوح بين الأزمات الأمنية الداخلية والضغوط الإقليمية والدولية. وفي قلب هذه التحديات، تبرز أحداث السويداء الأخيرة كمثال واضح على التعقيدات التي تواجه عملية الاستقرار والانتقال السياسي في البلاد، وسط محاولات دولية وإقليمية متعددة لدعم الحكومة الجديدة اقتصادياً ودبلوماسياً.
أزمة السويداء: الدماء والتحقيقات
شهدت محافظة السويداء في يوليو الماضي اشتباكات دامية بين مجموعات درزية وقبائل بدوية أسفرت عن مقتل 426 شخصاً وفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان. هذه الأحداث، التي وصفتها تقارير محلية بأنها الأعنف منذ سقوط نظام الأسد، كشفت عن هشاشة الوضع الأمني في بعض المناطق السورية وتعقيدات إدارة التنوع الطائفي والاجتماعي في البلاد.
ردت الحكومة السورية الجديدة على هذه الأزمة بتشكيل لجنة تحقيق رسمية تضم قضاة وجنرالاً عسكرياً، أُنيطت بها مهمة تقديم تقرير نهائي خلال ثلاثة أشهر. كما وصلت قافلة محروقات إلى المنطقة تحمل 96 ألف لتر من المازوت، في محاولة لتخفيف الأزمة الإنسانية. إلا أن هذه الجهود واجهت تعقيدات إضافية نتيجة التدخل الإسرائيلي المباشر في الأزمة.
التدخل الإسرائيلي: الذرائع والأهداف
استغلت إسرائيل أحداث السويداء لتبرير عمليات عسكرية ضد القوات السورية، بحجة “حماية الدروز” في سوريا. شنت القوات الإسرائيلية ضربات على مواقع حكومية في دمشق والسويداء، مما أسفر عن مقتل 20 شخصاً إضافياً. ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هذه الهجمات بأنها “ضرورية” لـ”إنقاذ إخواننا الدروز”.
لكن تحليلات الخبراء تشير إلى أهداف إسرائيلية أبعد من حماية الدروز، حيث نفذت إسرائيل حوالي 1000 غارة على سوريا واحتلت 180 كيلومتراً مربعاً من الأراضي السورية منذ ديسمبر 2024. هذا التوسع يأتي في إطار سعي إسرائيلي لتوسيع المنطقة منزوعة السلاح على طول الحدود وضمان عدم تشكيل تهديد من الحكومة السورية الجديدة.
رد الرئيس السوري أحمد الشرع بقوة على هذا التدخل، مؤكداً أن إسرائيل تستخدم حماية الدروز كذريعة لاستهداف البنية التحتية المدنية في سوريا وعرقلة جهود السلام وإعادة الإعمار. وقال في خطاب تلفزيوني: “نحن الشعب السوري نعرف جيداً من يحاول جرنا إلى الحرب ومن يعمل على تقسيمنا، لن نمنحهم الفرصة لتوريط شعبنا في حرب لا تؤدي إلا إلى تفتيت وطننا وزرع الدمار”.
العلاقات الروسية الجديدة: مرحلة انتقالية
في مقابل التصعيد الإسرائيلي، شهدت العلاقات السورية الروسية تطوراً مهماً مع زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو في 31 يوليو، وهي الأولى لمسؤول سوري على هذا المستوى منذ سقوط نظام الأسد. اللقاء الذي وصفته الخارجية السورية بـ”التاريخي” مع الرئيس بوتين أكد انطلاق مرحلة جديدة من التفاهم السياسي والعسكري بين البلدين، قائمة على احترام السيادة السورية.
أكد بوتين خلال اللقاء رفض روسيا القاطع لأي تدخلات إسرائيلية أو محاولات لتقسيم سوريا، والتزام موسكو بدعم سوريا في إعادة الإعمار واستعادة الاستقرار. كما أشار الشيباني إلى التزام سوريا بتصحيح العلاقات مع روسيا على أسس جديدة تراعي مصالح الشعب السوري وتفتح آفاق شراكة متوازنة.
هذا التطور في العلاقات الروسية السورية يأتي وسط تساؤلات حول مصير بشار الأسد الذي تستضيفه روسيا حالياً، ومستقبل الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية الموقعة في عهد النظام السابق. محللون يرون أن روسيا تسعى للتعايش مع الوضع السوري الجديد والاستفادة من استمرار وجودها في المنطقة كقوة توازن إقليمية.
الاستثمارات الخليجية: نافذة أمل اقتصادية
على الصعيد الاقتصادي، شهدت سوريا تطوراً إيجابياً مع إعلان السعودية عن استثمارات ضخمة تقدر بـ24 مليار ريال (6.4 مليار دولار) من خلال 47 اتفاقية ومذكرة تفاهم وقعت خلال “المنتدى السعودي السوري” في دمشق. هذه الاستثمارات تغطي قطاعات حيوية تشمل العقارات، البنية التحتية، الاتصالات، الطاقة، والخدمات المالية.
وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح أكد أن هذه الخطوة تعكس حرص المملكة على تطوير علاقاتها مع سوريا وتشكل نقطة انطلاقة لتدفق الاستثمارات إلى البلاد. كما أعلن عن تأسيس “مجلس أعمال سعودي سوري” بتوجيه من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لتعزيز التعاون التجاري والاستثماري بين البلدين.
إضافة إلى السعودية، تعهدت قطر بدعم مالي مشترك لموظفي الدولة السوريين. كما أعلن الاتحاد الأوروبي عن تعهد بـ2.5 مليار يورو لدعم السوريين داخل سوريا وفي المنطقة خلال عامي 2025 و2026.
التحديات الاقتصادية: نمو متواضع وتحديات كبيرة
رغم هذا الدعم، تشير توقعات البنك الدولي إلى نمو متواضع للاقتصاد السوري بنسبة 1% في عام 2025، بعد انكماش بنسبة 1.5% في عام 2024. البنك الدولي أوضح أن تخفيف العقوبات يوفر بعض الإمكانات الواعدة، إلا أن التقدم يبقى محدوداً مع استمرار تجميد الأصول وتقييد الوصول إلى الخدمات المصرفية الدولية.
تكشف الأرقام حجم التحدي الاقتصادي الذي تواجهه سوريا، حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 50% منذ عام 2010، وانخفض نصيب الفرد من الدخل القومي إلى 830 دولاراً فقط في عام 2024. كما يعيش ثلثا السوريين تحت خط الفقر، ويواجه واحد من كل أربعة سوريين الفقر المدقع.
تقديرات دولية تشير إلى أن إعادة إعمار سوريا تحتاج إلى 400 مليار دولار، وتكلفة إعادة إعمار مدينة حلب وحدها تقدر بـ40 مليار دولار. هذه الأرقام الفلكية تبرز ضخامة التحدي وضرورة التعاون الدولي المستدام.
التحديات الأمنية: بناء مؤسسات جديدة
على الصعيد الأمني، تواجه السلطة الانتقالية تحديات كبيرة في بسط نفوذها على كامل التراب السوري. أعلنت الحكومة الجديدة حل جميع الفصائل المسلحة ودمجها تحت مظلة وزارة الدفاع، لكن التحديات تبقى جسيمة.
من أبرز هذه التحديات جمع السلاح الذي انتشر على نطاق واسع عقب سقوط النظام. كما تواجه قوى الأمن الجديدة هجمات متكررة من فلول النظام السابق، خاصة في ريف الساحل. إضافة إلى ذلك، تسعى الحكومة لضبط مناطق الحدود مع لبنان حيث تتمركز قوى تعمل في تهريب السلاح والمخدرات.
التحدي الأكبر يكمن في التعامل مع المناطق التي لا تزال خارج السيطرة الكاملة للحكومة، خاصة في شمال شرق سوريا حيث تتواجد قوات سوريا الديمقراطية (قسد). تجري حالياً محادثات حول مستقبل هذه القوات وإمكانية دمج مقاتليها في الجيش الوطني مع ضمان حقوق الأكراد في الدستور الجديد.
الدعم الدولي والمساعدات الإنسانية
تقدم الأمم المتحدة وشركاؤها المساعدات الإنسانية لما يقرب من 2.5 مليون شخص في سوريا شهرياً، رغم التقليص الحاد للتمويل الإنساني. منذ بداية العام، عبرت 1,185 شاحنة تحمل مساعدات إنسانية من تركيا إلى سوريا، بزيادة 6 مرات عن نفس الفترة من العام الماضي.
لكن التحدي الإنساني يبقى ضخماً، حيث يحتاج 16 مليون شخص في سوريا للدعم الصحي الإنساني العاجل. كما تطلب الأمم المتحدة 3.19 مليار دولار لمساعدة 10 ملايين شخص حتى نهاية 2025، لكن التمويل المتوفر لا يتجاوز 11% من المطلوب.
مشكلة إضافية تتمثل في مخلفات الحرب والعبوات غير المنفجرة التي قتلت وأصابت 1000 شخص منذ ديسمبر، منهم أكثر من ثلث الضحايا من الأطفال. هذا يتطلب دعماً عاجلاً لتوسيع جهود التوعية بالمخاطر وعمليات تطهير المتفجرات.
آفاق المستقبل: بين الاستقرار والتحديات
تقف سوريا اليوم أمام سيناريوهات متعددة للمستقبل. السيناريو الأول يتصور انتقالاً تدريجياً نحو الاستقرار من خلال تسوية سياسية شاملة وبناء مؤسسات دولة قوية. لكن هذا يتطلب تجاوز الانقسامات العميقة والتعامل مع التدخلات الإقليمية المتضاربة والأزمة الاقتصادية الخانقة.
السيناريو الثاني يحذر من استمرار الفوضى والانقسامات الطائفية، مما قد يؤدي إلى تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ متنازعة وظهور قوى متطرفة تستغل الفراغ الأمني. عوامل مثل فشل الحلول السياسية وتعمق الانقسامات الطائفية والتدخلات الخارجية قد تدفع نحو هذا السيناريو المدمر.
لتجنب السيناريو السلبي وتحقيق الاستقرار، تحتاج سوريا إلى نهج شامل يجمع بين الإصلاح السياسي والأمني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. هذا يتطلب دعماً دولياً مستداماً ورؤية استراتيجية متكاملة تضمن مشاركة جميع مكونات الشعب السوري في بناء مستقبل البلد.
إن نجاح سوريا في تجاوز محنتها الحالية وتحقيق الاستقرار المنشود لن يعتمد فقط على الجهود الداخلية، بل يتطلب أيضاً تفهماً ودعماً من المجتمع الدولي والإقليمي. التحديات كبيرة والطريق شاق، لكن الفرص متاحة لبناء سوريا جديدة قائمة على العدالة والديمقراطية واحترام التنوع، شرط أن تتضافر الجهود الداخلية والخارجية لتحقيق هذا الهدف النبيل.
صحفي فلسطيني من غزة – كاتب بالشأن السياسي والعسكري بمنصة الواقع العربي، كما أملك خبرات بالتصميم الفني والإبداعي