يشهد لبنان مرحلة حاسمة في تاريخه السياسي المعاصر، حيث تتصاعد الضغوط الدولية والداخلية بشكل غير مسبوق لنزع سلاح حزب الله، في وقت يرفض فيه الحزب بشكل قاطع التخلي عن ترسانته العسكرية. هذا التوتر المتزايد يضع لبنان في مفترق طرق خطير، بين تحقيق السيادة الكاملة للدولة من جهة، ومخاطر الانزلاق نحو صراع داخلي مدمر من جهة أخرى، وسط تداعيات إقليمية ودولية معقدة تجعل من هذا الملف أحد أبرز التحديات الاستراتيجية التي تواجه المنطقة.
تصاعد الضغوط الأميركية: إنذار أخير أم مناورة دبلوماسية؟
تشهد الإدارة الأميركية تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب تصعيداً ملحوظاً في ضغوطها على الحكومة اللبنانية لإصدار قرار حكومي رسمي يلزمها بنزع سلاح حزب الله. وفقاً لمصادر دبلوماسية، فإن واشنطن أوضحت لبيروت أنها لن تعاود إرسال المبعوث الأميركي توماس باراك للتفاوض مع المسؤولين اللبنانيين، أو الضغط على إسرائيل لوقف غاراتها أو سحب قواتها من جنوب لبنان، دون التزام علني من الوزراء اللبنانيين بنزع سلاح الحزب.
هذا التطور يمثل نقلة نوعية في الاستراتيجية الأميركية، حيث تربط واشنطن لأول مرة بشكل صريح بين وقف العمليات الإسرائيلية واتخاذ لبنان قراراً حكومياً ملزماً بشأن سلاح حزب الله. الخطة الأميركية تتضمن نزع سلاح الحزب بالكامل خلال أربعة أشهر مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية من النقاط الخمس التي تحتلها في جنوب لبنان ووقف الغارات الجوية.
القدرات العسكرية الهائلة: أرقام تكشف حجم التحدي
لفهم تعقيدات عملية نزع السلاح، لا بد من استيعاب الحجم الحقيقي للترسانة العسكرية التي يمتلكها حزب الله. تشير التقديرات الاستخباراتية الأميركية والإسرائيلية إلى أن الحزب يمتلك ما بين 120,000 إلى 200,000 صاروخ ومقذوف من أنواع مختلفة، مما يجعله أقوى جماعة مسلحة غير حكومية في العالم.
هذه الترسانة تشمل صواريخ قصيرة المدى مثل فجر-1 (10 كيلومترات) وفلق-1 و2 (11 كيلومتر)، وصواريخ متوسطة المدى مثل كاتيوشا (40 كيلومتر) وفجر-3، وصواريخ بعيدة المدى مثل زلزال (200 كيلومتر) التي يمكنها الوصول إلى تل أبيب من جنوب لبنان. كما يمتلك الحزب طائرات مسيرة بمدى تشغيلي يصل إلى 2000 كيلومتر، وأنظمة دفاع جوي، وصواريخ مضادة للدبابات والسفن.
الأهم من ذلك أن الحزب طور قدرات تصنيعية محلية بدعم إيراني، حيث يمتلك مصانع لإنتاج وتطوير الصواريخ داخل لبنان. إيران تقدم للحزب حوالي 700 مليون دولار سنوياً، وقد نقلت إليه تكنولوجيا تصنيع الأسلحة والصواريخ والطائرات المسيرة.
الرفض القاطع: حزب الله يتمسك بـ”خيار المقاومة”
في مواجهة هذه الضغوط المتزايدة، اتخذ الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم موقفاً صارماً برفض أي دعوات لنزع السلاح. في خطاب متلفز بمناسبة الذكرى الأولى لاغتيال القائد فؤاد شكر، أكد قاسم أن “المطالبة بتسليم السلاح تخدم المشروع الإسرائيلي” وأن الحزب “لن يستسلم لإسرائيل”.
قاسم شدد على أن “نزع السلاح مسألة لبنانية داخلية وليس لها علاقة بالعدو الإسرائيلي”, مضيفاً أن “من يطالب بتسليم الأسلحة يطالب عملياً بتسليمها لإسرائيل”. هذا الموقف يعكس رؤية استراتيجية للحزب ترى في الاحتفاظ بالسلاح ضمانة وجودية وليس مجرد أداة عسكرية.
مع ذلك، تشير مصادر مطلعة إلى أن الحزب بدأ مراجعة استراتيجية شاملة في أعقاب الحرب المدمرة مع إسرائيل، بما في ذلك النظر في تقليص دوره كحركة مسلحة. المراجعة تشمل إمكانية التخلي عن بعض الأسلحة الثقيلة مثل الصواريخ والطائرات المسيرة التي تشكل أكبر تهديد لإسرائيل، مع الاحتفاظ بالأسلحة الخفيفة والصواريخ المضادة للدبابات.
التدخل الإسرائيلي: استراتيجية الضغط المستمر
في خضم هذه التطورات، تواصل إسرائيل حملتها العسكرية ضد مواقع حزب الله في لبنان، حيث نفذت في 31 يوليو أكبر حملة جوية منذ بداية التوترات الحدودية. الغارات استهدفت مواقع تصنيع الصواريخ الدقيقة ومرافق إنتاج وتخزين الطائرات المسيرة ومجمعات تخزين المتفجرات تحت الأرض في جنوب لبنان ووادي البقاع.
وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس أعلن استهداف “أكبر منشأة لحزب الله لتصنيع الصواريخ الدقيقة”17, في إطار استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى تدمير القدرات الصاروخية للحزب وإجباره على الرضوخ لمطالب نزع السلاح. هذا التصعيد العسكري يهدف إلى خلق ضغط إضافي على الحزب والحكومة اللبنانية لقبول الشروط الأميركية-الإسرائيلية.
دور الجيش اللبناني: إمكانيات محدودة وتحديات كبيرة
يقف الجيش اللبناني في وسط هذه المعادلة المعقدة، حيث يُنتظر منه أن يلعب دوراً محورياً في عملية نزع سلاح حزب الله رغم إمكانياته المحدودة. الجيش اللبناني يضم حوالي 80,000 عنصر، منهم 5,000 فقط منتشرون في الجنوب، مقارنة بأكثر من 100,000 مقاتل في صفوف حزب الله وفق تقديرات الحزب نفسه.
التفاوت في القدرات العسكرية واضح، حيث يفتقر الجيش اللبناني إلى أنظمة دفاع جوي حديثة وتقنيات عسكرية متطورة، بينما يمتلك حزب الله أسلحة متقدمة بدعم إيراني. هذا الواقع يجعل من المستحيل عملياً على الجيش اللبناني إجبار حزب الله على نزع سلاحه بالقوة، مما يتطلب حلولاً سياسية ودبلوماسية.
مع ذلك، تشير تقارير إلى أن الجيش اللبناني حقق تقدماً ملحوظاً في تفكيك البنية التحتية لحزب الله في الجنوب، حيث أعلن رئيس الوزراء نواف سلام أن الحكومة حققت 80% من أهدافها في نزع سلاح الميليشيات في الجنوب. هذا التقدم تم بمساعدة معلومات استخباراتية إسرائيلية نُقلت عبر الولايات المتحدة.
الدعم الإقليمي والدولي: السعودية وفرنسا في المقدمة
تلعب القوى الإقليمية والدولية دوراً محورياً في معادلة نزع سلاح حزب الله. السعودية، التي تشهد عودة تدريجية للانخراط في الملف اللبناني بعد سنوات من الانسحاب، تربط دعمها للبنان بشروط واضحة تشمل نزع سلاح حزب الله وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والقضائية.
الرؤية السعودية، المرتبطة برؤية 2030 واحتواء النفوذ الإيراني، ترى في لبنان فرصة نادرة لتهميش حزب الله استغلالاً لضعفه العسكري والسياسي عقب الحرب مع إسرائيل. الدعم السعودي يتضمن المساعدة المالية لإعادة الإعمار، والمساعدة العسكرية للجيش اللبناني، وزيادة الواردات اللبنانية، ورفع حظر السفر على المواطنين السعوديين.
من جهتها، تتولى فرنسا دوراً مهماً في الإشراف على تنفيذ وقف إطلاق النار، حيث أكد الجنرال الفرنسي غيوم بونشين أن عملية نزع سلاح حزب الله في جنوب لبنان تحرز “تقدماً جيداً” رغم صعوبة توثيق الانتهاكات بسبب الغموض في نص الاتفاق. فرنسا تركز على وقف إعادة اشتعال القتال وضمان عودة المدنيين اللبنانيين إلى جنوب لبنان بدعم من الجيش اللبناني.
العوائق الجوهرية: تحديات الطائفية والسيادة
تواجه جهود نزع سلاح حزب الله عوائق جوهرية تتجاوز الاعتبارات العسكرية لتشمل التعقيدات الطائفية والسياسية في لبنان. النظام الطائفي اللبناني، الذي يضمن لحزب الله تمثيلاً سياسياً واسعاً في الحكومة والبرلمان، يجعل من الصعب تهميش الحزب سياسياً دون إحداث خلل في التوازنات الطائفية.
محاولات الولايات المتحدة منع حزب الله أو حلفائه من ترشيح وزير المالية اللبناني القادم تعكس هذا التحدي. واشنطن تسعى لتقليص نفوذ الحزب في مؤسسات الدولة، لكن هذا الأمر يصطدم بالحقوق الطائفية المكفولة دستورياً للطائفة الشيعية التي يمثلها الحزب وحركة أمل.
الاقتراح المطروح للسماح لحزب الله بالاحتفاظ بالأسلحة الخفيفة مع تسليم الأسلحة الثقيلة والمتوسطة أثار انتقادات واسعة من الأحزاب اللبنانية. زعيم حزب الكتائب سامي الجميل رفض التصنيف قائلاً إن “الأسلحة الخفيفة أخطر على أسس الدولة من الأسلحة الثقيلة”، مشيراً إلى أحداث 7 مايو 2008 عندما سيطر مقاتلو حزب الله على أجزاء من بيروت وجبل لبنان.
المأزق الاستراتيجي: بين الضرورة والاستحالة
يكشف التحليل العسكري والسياسي أن لبنان يواجه مأزقاً استراتيجياً حقيقياً. من جهة، تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701 والاتفاقات الدولية يتطلب نزع سلاح جميع الجماعات المسلحة في لبنان. من جهة أخرى، الواقع على الأرض يشير إلى أن الدولة اللبنانية غير قادرة على فرض هذا الأمر بالقوة دون المخاطرة بحرب أهلية جديدة.
الرئيس اللبناني جوزيف عون، الذي صعد ضغوطه على حزب الله، يسعى لإيجاد مخرج دبلوماسي من خلال الحوار المباشر مع الحزب بدلاً من الإحالة إلى طاولة حوار وطني أوسع. هذا النهج يهدف إلى تجنب تكرار فشل جولات الحوار السابقة التي لم تنتج اتفاقات قابلة للتنفيذ.
الخطة اللبنانية المقترحة تتضمن ثمانية مطالب أساسية تشمل الانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى الحدود المعترف بها دولياً، ووقف الهجمات البرية والبحرية والجوية، وإطلاق سراح المعتقلين اللبنانيين، ونزع سلاح جميع الجماعات المسلحة بما فيها حزب الله. كما تطلب الخطة مليار دولار سنوياً لمدة عشر سنوات لدعم الجيش وقوى الأمن الداخلي.
السيناريوهات المستقبلية: طرق متشعبة ومصائر متباينة
أمام لبنان اليوم عدة سيناريوهات محتملة، كل منها يحمل تداعيات جوهرية على مستقبل البلاد والمنطقة. السيناريو الأول يتمثل في التوصل إلى تسوية تدريجية تشمل تقليص ترسانة حزب الله مقابل ضمانات سياسية وأمنية، مع الحفاظ على دور سياسي للحزب في إطار النظام اللبناني. هذا السيناريو يتطلب مرونة من جميع الأطراف وضمانات إقليمية ودولية.
السيناريو الثاني يقوم على استمرار الجمود الحالي، مع احتفاظ حزب الله بجزء من ترسانته واستمرار التوترات مع إسرائيل على نار هادئة. هذا الوضع قد يكون مقبولاً مؤقتاً لكنه يحمل مخاطر انفجار دوري للأوضاع الأمنية.
السيناريو الثالث، والأكثر خطورة، يتضمن فشل الجهود الدبلوماسية وانزلاق لبنان نحو مواجهة داخلية حول سلاح حزب الله، أو حرب إقليمية جديدة تشمل إسرائيل وإيران عبر وكلائها في المنطقة.
معركة المصير بين السيادة والمقاومة
تمثل معركة نزع سلاح حزب الله في لبنان أكثر من مجرد نزاع حول الأسلحة، بل صراعاً جوهرياً حول طبيعة الدولة اللبنانية ومستقبلها في النظام الإقليمي الجديد. النجاح في هذا الملف يتطلب توازناً دقيقاً بين الضغوط الخارجية والحقائق الداخلية، مع إدراك أن الحلول العسكرية وحدها غير كافية لمعالجة جذور المشكلة.
الوقت ليس في صالح أي من الأطراف، فالضغوط الأميركية والإسرائيلية تتزايد، وصبر المجتمع الدولي ينفد، بينما يواجه حزب الله تحديات داخلية وخارجية غير مسبوقة. في المقابل، الدولة اللبنانية تحتاج إلى وقت وموارد لبناء قدراتها المؤسسية والعسكرية قبل أن تتمكن من فرض احتكارها للسلاح بشكل فعال.
المؤكد أن المرحلة القادمة ستشهد تطورات حاسمة تحدد مصير لبنان لعقود قادمة، سواء نحو دولة سيدة قادرة على حماية أراضيها وشعبها، أو نحو مزيد من التفتت والصراعات التي قد تقود البلاد إلى المجهول. الخيار الآن بين أيدي صناع القرار اللبنانيين والإقليميين والدوليين، والتاريخ سيحكم على خياراتهم في هذه اللحظة الفارقة.
صحفي فلسطيني من غزة – كاتب بالشأن السياسي والعسكري بمنصة الواقع العربي، كما أملك خبرات بالتصميم الفني والإبداعي