في تطور خطير ينذر بعودة التوتر إلى الجنوب السوري، شهدت محافظة السويداء في الثالث من أغسطس 2025 خرقاً صارخاً لاتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في يوليو الماضي. هذا الخرق، الذي تجسد في مقتل خمسة من عناصر قوات الأمن الداخلي وإصابة آخرين في هجوم مسلح شنته مجموعات درزية خارجة عن القانون، يضع الحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع أمام تحدٍ وجودي يختبر قدرتها على بسط سيادة الدولة وحماية وحدة البلاد في وجه التدخلات الخارجية والفتن الطائفية
الجريمة التي هزت أسس الهدنة الهشة
تشير التقارير الأولية إلى أن المجموعات الدرزية المسلحة لم تكتف بخرق اتفاق وقف إطلاق النار فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى قصف عدة قرى في ريف المحافظة في تصعيد خطير يهدد بإعادة إشعال النار في منطقة استراتيجية حساسة.
وقد أكدت وزارة الداخلية السورية أن هذه الاعتداءات الجديدة تستهدف عناصر الشرطة والأمن، وأن المجموعات المسلحة اخترقت ما تم التوصل إليه من تفاهمات محلية في محاولة لإرباك المشهد وتقويض جهود الدولة الرامية إلى استعادة الاستقرار والأمن.
هذا الخرق الدامي يأتي بعد أسابيع قليلة من دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 21 يوليو 2025، والذي كان ثمرة وساطة أمريكية وعربية وتركية مكثفة نجحت في وقف أسبوع كامل من الاشتباكات الطاحنة التي أسفرت عن مقتل أكثر من 1400 شخص ونزوح 176 ألف نسمة من ديارهم.
الرئيس الشرع: موقف حازم من الفتنة والتقسيم
في خطاب تاريخي مهم ألقاه في 17 يوليو 2025، وضع الرئيس السوري أحمد الشرع النقاط على الحروف في رسالة واضحة للداخل والخارج حول موقف الدولة السورية الجديدة من أحداث السويداء والتدخلات الخارجية. وأكد الشرع أن “الدولة السورية تمكنت من تهدئة الأوضاع رغم صعوبة الوضع، لكن التدخل الإسرائيلي دفع البلاد إلى مرحلة خطيرة تهدد استقرارها”.
وفي تحليل عميق للمشهد، وضع الرئيس الشرع الأحداث في سياقها الصحيح قائلاً: “الكيان الإسرائيلي الذي عودنا دائماً على استهداف استقرارنا وخلق الفتن بيننا منذ إسقاط النظام البائد، يسعى الآن مجدداً إلى تحويل أرضنا الطاهرة إلى ساحة فوضى غير منتهية، يسعى من خلالها إلى تفكيك وحدة شعبنا وإضعاف قدراتنا على المضي قدماً في مسيرة إعادة البناء والنهوض”.
الموقف الدولي: بين الإدانة والدعم للسيادة السورية
شهد المجتمع الدولي تفاعلاً واسعاً مع أحداث السويداء، حيث تباينت المواقف بين إدانة صريحة للتدخل الإسرائيلي ودعم لجهود التهدئة التي تبذلها الحكومة السورية. فقد أعربت روسيا عن “قلقها البالغ إزاء المعلومات الواردة حول أعمال انتقامية ووحشية غير مقبولة ضد المدنيين”، مؤكدة أن “الاعتداء على حياة المدنيين وسلامتهم أمر غير مقبول”10.
من جهتها، دعت ألمانيا جميع الجهات الفاعلة المحلية والدولية إلى “تفادي أي خطوات من شأنها أن تعرض الاستقرار والانتقال السياسي في سوريا للخطر”، بينما أكدت فرنسا دعمها للجهود التي تضطلع بها الحكومة السورية مع المسؤولين في منطقة السويداء من أجل استئناف الحوار.
وفي خطوة مهمة، حثت الولايات المتحدة مجلس الأمن الدولي على تعديل عقوباته المفروضة على سوريا، في إشارة إلى الدعم الأمريكي للحكومة الجديدة في جهودها لمحاربة الإرهاب واستعادة الاستقرار.
إسرائيل: اللاعب الخلفي وراء تأجيج الفتنة
تشير التحليلات الاستراتيجية إلى أن إسرائيل تلعب دوراً محورياً في تأجيج التوترات الطائفية في السويداء، مستغلة الوضع الحساس للطائفة الدرزية لتحقيق مكاسب جيوسياسية أوسع. فقد شنت إسرائيل في 16 يوليو 2025 غارات جوية على دمشق والسويداء استهدفت مقر هيئة الأركان والقصر الرئاسي، تحت ذريعة حماية الدروز.
وأوضح معهد الأمن القومي الإسرائيلي في دراسة حديثة أن التدخل الإسرائيلي يعكس “التزاماً أخلاقياً” تجاه الطائفة الدرزية، لكنه في الوقت ذاته يثير تساؤلات حول تداعياته الاستراتيجية، خصوصاً أن بعض الدروز في سوريا متورطون في الصراع، وهناك مخاوف من أن تُوصم الطائفة بالعمالة لإسرائيل.
الدروز بين الولاء للوطن والاستقواء بالخارج
يشكل موقف الطائفة الدرزية في السويداء أحد أعقد التحديات التي تواجهها الحكومة السورية الجديدة. فبينما يؤكد الرئيس الشرع أنه “لا يجوز أن نحاكم الطائفة الدرزية بأكملها بسبب تصرفات فئة قليلة انزلقت في مواقف لا تمثل تاريخ هذه الطائفة العريقة”، تشير التقارير إلى أن الشيخ حكمت الهجري، الزعيم الروحي للطائفة الدرزية، يرفض التعامل مع الحكومة الجديدة ويصفها بأنها “مجموعة من التنظيمات الإرهابية المتطرفة”.
وقد تجلى هذا الانقسام في المجتمع الدرزي من خلال تشكيل “المجلس العسكري في السويداء”، وهو ميليشيا محلية تشكلت بعد سقوط الأسد، ويُعتقد أن لها ارتباطات بإسرائيل، والتي تقود المقاومة ضد دخول قوات الدولة إلى المحافظة.
السيناريوهات المتوقعة: بين الاستقرار والفوضى
تتراوح السيناريوهات المتوقعة لمستقبل السويداء وسوريا ككل بين عدة احتمالات تتسم بدرجات متفاوتة من التعقيد والخطورة:
السيناريو الأول: نجاح الدولة في فرض سيطرتها
يقوم هذا السيناريو على نجاح الحكومة السورية في تطبيق القانون وإخضاع الفصائل المسلحة الخارجة عن القانون، مع المحافظة على التماسك الوطني وعدم الانجرار إلى مواجهة عسكرية واسعة مع إسرائيل. هذا السيناريو يتطلب حكمة سياسية عالية وقدرة على إدارة التوازنات الدقيقة بين مختلف المكونات.
السيناريو الثاني: التقسيم الناعم
يشمل هذا السيناريو منح حقوق أكبر من الحكم الذاتي للمكونات السورية الرئيسية، على أن تتشكل دولة فدرالية تجمع كل هؤلاء. وهذا النموذج قريب من التفكير الأمريكي والأوروبي وقد تدعمه إسرائيل لأنه يضعف الدولة المركزية ويجعلها أقل قدرة على التهديد.
السيناريو الثالث: الفوضى الممنهجة
وهو السيناريو الأسوأ الذي يشهد انزلاق البلاد نحو صراع طائفي واسع يشمل مناطق أخرى مثل الساحل ودير الزور، مما يؤدي إلى انهيار المشروع الوطني السوري وتحقيق الأهداف الإسرائيلية في تفتيت المنطقة.
الاستراتيجية الحكومية: التوازن بين الحزم والحكمة
تتبع الحكومة السورية استراتيجية متوازنة تقوم على عدة محاور أساسية في التعامل مع أزمة السويداء:
أولاً، تشكيل لجنة تحقيق رسمية برئاسة وزير العدل مظهر الويس للتحقيق في الانتهاكات، مع منح اللجنة صلاحيات واسعة وتخصيص مقر دائم لها وفتح خطوط اتصال مباشرة مع أهالي السويداء.
ثانياً، اعتماد سياسة حذرة تتجنب التصعيد العسكري مع إسرائيل مع الحفاظ على الثوابت الوطنية، حيث أكد الرئيس الشرع أن “نحن أبناء سوريا، نعرف جيداً من يحاول جرّنا إلى الحرب، ومن يسعى إلى تقسيمنا، ولن نعطيهم الفرصة بأن يورّطوا شعبنا في حرب يرغبون في إشعالها على أرضنا”.
ثالثاً، تعزيز العلاقات الإقليمية والدولية لبناء جبهة دعم للموقف السوري، حيث نجحت دمشق في كسب تأييد واسع من الدول العربية والقوى الدولية الكبرى للموقف السوري.
التحديات الماثلة أمام الدولة السورية الجديدة
تواجه الحكومة السورية تحديات جسيمة متعددة الأبعاد تتطلب استراتيجية شاملة ومتكاملة:
التحدي الأمني
يتمثل في ضرورة بسط سيطرة الدولة على كامل الأراضي السورية ووقف عمليات التهريب والتجارة غير المشروعة التي تغذي الفصائل المسلحة، مع تجنب الانجرار إلى مواجهات عسكرية واسعة قد تستغلها إسرائيل لتحقيق مآربها.
التحدي السياسي
يتجلى في الحاجة إلى إطلاق حوار وطني شامل وحقيقي يشمل جميع المكونات السورية، وليس مجرد مؤتمرات شكلية، من أجل بناء إجماع وطني حول شكل الدولة ونظامها السياسي.
التحدي الاقتصادي
حيث تحتاج سوريا إلى استثمارات ضخمة لإعادة الإعمار تقدر بـ 250-400 مليار دولار، في ظل معاناة 90% من السكان تحت خط الفقر واعتماد 16.7 مليون شخص على المساعدات الإنسانية.
التحدي الإقليمي
المتمثل في التعامل مع التدخلات الخارجية المتعددة، خاصة الإسرائيلية والتركية، مع الحفاظ على السيادة الوطنية وعدم السماح لسوريا بأن تكون ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية.
سوريا أمام مفترق طرق تاريخي
إن خرق اتفاق وقف إطلاق النار في السويداء ليس مجرد حادث أمني عابر، بل هو اختبار حقيقي لقدرة الدولة السورية الجديدة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية والمحافظة على وحدة البلاد وسيادتها. فالأحداث تكشف عن محاولة إسرائيلية منظمة لاستغلال التوترات الطائفية لتفكيك النسيج الوطني السوري وإضعاف الدولة المركزية، في الوقت الذي تحاول فيه الحكومة السورية بناء دولة مؤسسات حقيقية تقوم على المواطنة وسيادة القانون.
الرسالة واضحة من القيادة السورية: سوريا الجديدة لن تسمح بعودة الفوضى ولن تكون منصة لمشاريع التقسيم أو ملعباً للتدخلات الخارجية. وكما أكد الرئيس الشرع، فإن “الوقائع تؤكد أن سوريا ليست ميداناً لتجارب مشاريع التقسيم أو الانفصال أو التحريض الطائفي”.
إن نجاح سوريا في تجاوز هذا الامتحان الصعب سيكون له تأثير عميق ليس فقط على مستقبل البلاد، بل على توازنات القوى في المنطقة برمتها. فسوريا الموحدة والمستقرة تشكل حجر الأساس في بناء شرق أوسط جديد قائم على الاستقرار والتنمية، بينما سوريا المقسمة والضعيفة ستكون بوابة لفوضى إقليمية قد تمتد لعقود قادمة.

مدير المحتوى التقني في الموقع، يقود تجربة المستخدم من خلال تصميم ذكي وواجهة سلسة. قام بتطوير الموقع ليُقدّم أفضل أداء ممكن، ويحرص على إثراء القسم التقني بمقالات دقيقة ومفيدة، تشمل ووردبريس، الذكاء الاصطناعي، والتحسين لمحركات البحث (SEO).