شهدت محافظة السويداء في جنوب سوريا يوم السبت 16 أغسطس 2025 احتجاجات واسعة النطاق تُعد الأكبر من نوعها منذ الاشتباكات الدموية التي وقعت الشهر الماضي، حيث طالب المتظاهرون لأول مرة بشكل صريح بحق تقرير المصير والاستقلال التام عن سوريا. تُمثل هذه الاحتجاجات تطوراً نوعياً خطيراً في موقف الطائفة الدرزية من الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، وتُلقي الضوء على التحديات المتنامية التي تواجه وحدة الأراضي السورية في ظل المرحلة الانتقالية الهشة.
الاحتجاجات وطبيعتها الجديدة
شهدت ساحة الكرامة في مدينة السويداء مظاهرات حاشدة رفع فيها المتظاهرون العلم الدرزي الموحد والعلم الإسرائيلي تحت شعار “حق تقرير المصير”. وقد هتف المحتجون ضد “الفيدرالية” ودعوا إلى “الاستقلال الكامل” مع شعارات مثل “الانفصال بدلاً من العيش في دولة الإرهاب” و”الانفصال بدلاً من العيش في دولة التخلف”.
ريان معروف، رئيس جماعة السويداء 24 الإعلامية النشطة، أكد أن مظاهرة السبت كانت الأكبر منذ الاشتباكات الشهر الماضي، وأن هناك تجمعات مماثلة في مناطق أخرى بما في ذلك بلدتي شهبا وصلخد القريبتين. وأضاف أن هذه هي المرة الأولى التي يتظاهر فيها الناس تحت شعار تقرير المصير، واصفاً ذلك بأنه “تغيير غير مسبوق للدروز في سوريا”.
شملت الاحتجاجات أيضاً مدينة شهبا في شمال محافظة السويداء، حيث طالب المشاركون بفتح معبر إنساني عاجل وتشكيل لجنة تحقيق دولية والإفراج عن المعتقلين. وشارك في الاحتجاجات عدد من شيوخ العقل الدروز، حيث تردد هتافات “السويداء تريد الاستقلال”.
الخلفية التاريخية للصراع
تضرب جذور الصراع الحالي عميقاً في التاريخ المعقد للطائفة الدرزية في سوريا. الدروز، الذين يُقدر عددهم بحوالي 700,000 نسمة في سوريا من أصل مليون درزي حول العالم، يتركزون بشكل أساسي في منطقة جبل العرب (جبل الدروز) في محافظة السويداء. هذه الطائفة، التي نشأت كفرع من الإسماعيلية في القرن العاشر الميلادي، حافظت على استقلالية نسبية عبر التاريخ وقاومت محاولات الإدماج القسري.
المسؤولون الإسرائيليون برروا الضربات بأنها استجابة لدعوات الدروز للحماية الدولية وكإنفاذ للخطوط الحمراء الإسرائيلية بالقرب من مرتفعات الجولان. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس أعلنا أن الجيش الإسرائيلي “نفذ عملية تحذير وهاجم مجموعة مسلحة كانت تستعد لمهاجمة السكان الدروز في بلدة السحنة في محافظة دمشق، سوريا”.
لكن النشطاء المحليين والمحللين يجادلون بأن القصف الإسرائيلي المستمر يؤجج الصراع الداخلي في السويداء، وهو وضع استمر منذ الإطاحة بالرئيس السابق بشار الأسد في ديسمبر. واستمرت إسرائيل في هجماتها على القوات الحكومية السورية، حتى في ضوء اتفاقيات وقف إطلاق النار المبرمة بين بعض القادة الدروز والنظام السوري.
موقف الطائفة الدرزية من الحكومة الانتقالية
تنقسم الطائفة الدرزية حول موقفها من الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة أحمد الشرع. الشيخ حكمت الهجري، أحد الزعماء الروحيين الثلاثة للدروز في السويداء، يقود معسكراً درزياً يسعى لوضع سياسي أكثر استقلالية للدروز في سوريا، بينما يدعم زعماء دروز آخرون مثل الشيوخ يوسف جربوع وحمود الهنوي حلاً يتضمن الدروز ضمن إطار الحكومة السورية المركزية.
الهجري، الذي يحمل سلطة على القضايا السياسية والأمنية الدرزية، كان يشير إلى هيئة تحرير الشام (HTS)، الفصيل الإسلامي المتشدد الذي قاد الانتفاضة ضد الأسد والمصنف كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة. أكد الهجري أن الميليشيات الدرزية، التي حافظت على الأمن في السويداء، ستبقى سليمة وتواصل الإشراف على الحدود مع المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية.
لا يريد الهجري “لأي شخص أن يتدخل من الخارج، لأن هذا وقت انتقالي وخطير”. في معظم الأيام، يعقد الهجري نقاشات من مسكن حجري في قرية قنوات، حيث امتلأت قاعة الاستقبال مؤخراً بشيوخ القرية والأسقف الكاثوليكي الروماني للمنطقة والقادة السياسيين، منتظرين اجتماعاً مع الرجل الذي سيحدد على الأرجح مستقبل الدروز السوريين.
ميليشيا “رجال الكرامة” والمقاومة المسلحة
تُعد ميليشيا “رجال الكرامة” أكبر الفصائل المسلحة الدرزية في محافظة السويداء، وقد نشأت من معركة خاضتها في أغسطس 2014 في قرية ضاما ضد جبهة النصرة، والتي عُرفت باسم “معركة الكرامة”. الفصيل حارب إلى جانب نظام الأسد ضد التنظيمات الجهادية.
واهد البلعوس، الذي كان مؤسس المنظمة، اغتيل بواسطة سيارة مفخخة في السويداء في سبتمبر 2015. بعد شهرين من اغتياله، تولى شقيقه رأفت القيادة، رغم أنه تنازل عن المنصب ليحيى الحجار نتيجة للإصابات التي تكبدها في الاغتيال.
ليث البلعوس، أحد أبناء واهد، طُرد من رجال الكرامة في 2015 بعد وفاة والده، ويقود حالياً “مضافة الكرامة”. هناك توترات مستمرة بين حركة رجال الكرامة وليث البلعوس، مع اتهامات متبادلة حول التوجهات السياسية والعلاقة مع الحكومة المركزية.
موقف الحكومة الانتقالية والاستجابة الرسمية
الحكومة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع تواجه تحدياً خطيراً في التعامل مع مطالب الدروز. في يناير 2025، عُيّن الشرع رئيساً انتقالياً لسوريا، وأعلن حل جميع الفصائل المسلحة التي شاركت في الإطاحة بالأسد، بالإضافة إلى جيش الحكومة السابقة وأجهزة الأمن. كما تم حل حزب البعث الذي حكم سوريا لعقود.
الشرع وعد بتشكيل “مجلس تشريعي مؤقت… حتى يتم البت في دستور دائم للبلاد”. كما التزم بملاحقة “المسؤولين عن إراقة الدماء والفظائع ضد الشعب السوري” ووعد بعقد “مؤتمر حوار وطني” ودعم “السلم الأهلي” إلى جانب السلامة الإقليمية لسوريا.
شكلت الحكومة الانتقالية الجديدة لجنة الشهر الماضي مكلفة بالتحقيق في الهجمات على المدنيين في العنف الطائفي في جنوب البلاد، ومن المفترض أن تصدر تقريراً خلال ثلاثة أشهر. كما أصدرت الحكومة بياناً أكدت فيه أن “القوات المسلحة وقوات الأمن الداخلي تحركت أقرب إلى مركز” محافظة السويداء.
لكن العديد من سكان السويداء الدروز يشكون في عدم الثقة العميق تجاه الشرع ومعاونيه، خوفاً من أن الإدارة الجديدة ستقيد حرياتهم. الشرع قاد سابقاً هيئة تحرير الشام الإسلامية التي تطورت من فرع لتنظيم القاعدة مسؤول عن مجزرة قلب لوزة عام 2015، التي أودت بحياة حوالي عشرين مدنياً درزياً.
التحديات الأمنية والسياسية
تُظهر الأحداث الجارية في السويداء التحديات الأوسع التي تواجه سوريا في المرحلة الانتقالية. سوريا تتصارع مع انقسامات عرقية ودينية عميقة بعد انهيار حكم عائلة الأسد في ديسمبر. أثبتت الانتقال أنه هش، مع تجدد العنف في مارس على طول الساحل وفي يوليو في السويداء، مما يسلط الضوء على التهديد المستمر للسلام بعد سنوات من الحرب الأهلية.
الموقف في السويداء يعكس التحديات الأساسية التي تواجه السوريين: حماية تنوع الأمة مع توازن الحكم الذاتي الإقليمي مع الوحدة الوطنية. الطائفة الدرزية المنقسمة ممزقة بين التعاون والتحدي تجاه دمشق، وإقليمياً، تسعى القيادة الإسرائيلية لتنفيذ عقيدة استراتيجية إقليمية جديدة بعد 7 أكتوبر مع الاستجابة أيضاً للضغط المحلي.
ترك الترتيب بين دمشق والوجهاء الدروز المحليين الذي منع خدمات الأمن الحكومية من دخول المنطقة بأي معنى ذي مدلول، إلى جانب عدم قدرة خدمات الأمن على السيطرة بشكل كافٍ على الطرق المؤدية إلى المنطقة، ترك مساحات واسعة من المناطق الحدودية في السويداء منطقة شبه خارجة عن القانون.
الموقف الإقليمي والدولي
على المستوى الإقليمي والدولي، تحظى قضية السلامة الإقليمية السورية بدعم واسع. أصدر وزراء خارجية تركيا والأردن والإمارات والبحرين والسعودية والعراق وعُمان وقطر والكويت ولبنان ومصر بياناً مشتركاً في 17 يوليو 2025 أكدوا فيه دعمهم لأمن سوريا ووحدتها واستقرارها وسيادتها، ورفضهم لجميع التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية.
رحب الوزراء بالاتفاق المتوصل إليه لإنهاء الأزمة في محافظة السويداء وأكدوا على ضرورة تنفيذه لضمان وحدة سوريا ومواطنيها ومنع إراقة الدماء وضمان حماية المدنيين، فضلاً عن سيادة الدولة وسيادة القانون. كما أدانوا الهجمات الإسرائيلية المتكررة ضد الجمهورية العربية السورية ورفضوها باعتبارها انتهاكات صارخة للقانون الدولي واعتداءات صارخة على سيادة سوريا.
الاتحاد الأوروبي أيضاً أصدر بياناً يدين أي محاولات لتقويض الاستقرار وآفاق انتقال سلمي دائم وشامل ومتسامح مع جميع السوريين في تنوعهم، ودعا جميع الأطراف الخارجية إلى احترام سيادة سوريا ووحدتها وسلامتها الإقليمية بشكل كامل.
التداعيات المستقبلية والسيناريوهات المحتملة
تواجه الحكومة الانتقالية السورية تحدياً معقداً في التعامل مع مطالب الاستقلال الدرزية. فشل في احتواء الأزمة قد يؤدي إلى تفكك إضافي للدولة السورية، بينما الاستجابة القمعية المفرطة قد تدفع المزيد من الدروز نحو الانفصالية وتعزز التدخل الإسرائيلي.
الحل الأمثل يتطلب نهجاً متوازناً يضمن حقوق الأقليات ضمن إطار الوحدة الوطنية، مع ضمانات دستورية للحكم الذاتي المحلي دون المساس بالسيادة الوطنية. نجاح هذا النهج يتطلب حواراً جاداً مع جميع الأطراف الدرزية، بما في ذلك الفصائل المسلحة والزعماء الروحيين، وضمانات أمنية حقيقية، وبرامج تنمية اقتصادية للمنطقة.
كما يتطلب الأمر تعاوناً إقليمياً ودولياً لمنع التدخلات الخارجية المزعزعة للاستقرار، وخاصة التدخل الإسرائيلي الذي يستغل الأزمة لتحقيق أهداف استراتيجية أوسع في جنوب سوريا. الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وضمان حقوق جميع المكونات يبقى التحدي الأكبر أمام الحكومة الانتقالية في مسعاها لبناء سوريا جديدة مستقرة وموحدة.
إن نجاح الحكومة الانتقالية في التعامل مع أزمة السويداء سيكون مؤشراً حاسماً على قدرتها على إدارة التنوع السوري وبناء دولة تحترم جميع مكوناتها، بينما فشلها قد يفتح الباب أمام مطالب انفصالية أخرى تهدد مستقبل الوحدة السورية.
منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز