في الرابع من ديسمبر 2025، تحركت رصاصات قاتلة في شرق رفح بقطاع غزة لتنهي فصلاً من أحلك فصول الخيانة والتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي. ياسر أبو شباب، زعيم ما يُعرّف بـ”القوات الشعبية”، لقي مصرعه في ظروف غامضة، تاركاً وراءه إرثاً ملطخاً بالعمالة والجرائم والتعاون الأمني المباشر مع جهاز الاستخبارات الإسرائيلية. وفاته تمثّل نقطة تحول حرجة في معادلات السيطرة على غزة، وتكشف عن الهشاشة الحقيقية للمشاريع التي ترعاها إسرائيل لتفتيت المقاومة الفلسطينية من الداخل.
من هو ياسر أبو شباب؟ سيرة الخيانة من البدء
ياسر أبو شباب، المولود في 19 ديسمبر 1993، كان قبل الحرب مجرد محترف في الجريمة والفساد، وكان له سجل إجرامي مثقل بتهم الاتجار بالمخدرات والسرقة قبل اندلاع الحرب. إلا أن الحرب وفّرت له المنصة المثالية لتحويل نشاطاته الإجرامية إلى مشروع سياسي-عسكري مدعوم من الاحتلال الإسرائيلي.
بدأ صعوده الحقيقي في مايو 2025، عندما شكّل ما سيُعرّف لاحقاً بـ”القوات الشعبية”، وهي جماعة مسلحة مكونة من حوالي 100 إلى 300 عنصر، معظمهم ضباط سابقون في قوات الأمن الفلسطينية التابعة للسلطة الفلسطينية. ادّعى أبو شباب في البداية أن تشكيل مجموعته جاء ردّاً على ما وصفه بـ”سرقة حماس للمساعدات الإنسانية وبيعها في الأسواق”. إلا أن الواقع كان مختلفاً تماماً، إذ سرعان ما تحولت “القوات الشعبية” إلى عصابة نهب منظّمة تستهدف قوافل المساعدات الإنسانية الداخلة إلى غزة، معتمدة على ستار من الحماية الإسرائيلية المباشرة.

التعاون مع الاحتلال: التحالف الملعون
ما يميّز قصة أبو شباب عن أغلب المتعاونين مع الاحتلال هو العلنية التي أعلن بها عن تعاونه مع إسرائيل. في يونيو 2025، بعد شهر من بداية نشاطاته، اعترف أبو شباب علناً بوجود “اتصالات وتنسيق أمني مباشر” مع تل أبيب، مؤكداً أن عمليات مجموعته تتم تحت إشراف الجيش الإسرائيلي. وفي تطور أكثر إثارة للقلق، اعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه في 5 يونيو 2025 بأن إسرائيل زودت جماعة أبو شباب بالأسلحة والمعدات.
كان نتنياهو صريحاً في مبرراته، حيث قال إن هذا الدعم جاء “وفق نصائح أمنية لتقليل خسائر الجنود الإسرائيليين” من خلال “إضعاف حماس”. أضاف في بيان مثير للجدل: “ما الخطأ في ذلك؟ إنه أمر جيد. إنه ينقذ أرواح جنود الجيش الإسرائيلي”. وفيما بعد، كشفت تقارير إعلامية أن جهاز الشاباك (المخابرات الإسرائيلية الداخلية) كان قد تولى مسؤولية تسليح وتدريب مجموعة أبو شباب كجزء من استراتيجية مخطط لها مسبقاً، حيث تم نقل مئات قطع السلاح الخفيف إلى المجموعة بسرية تامة بقرار من نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس.
التعاون الأمني لم يقتصر على تسليح المجموعة فحسب، بل امتد إلى تنسيق عمليات عسكرية مباشرة. في مواقع كانت تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، كانت “القوات الشعبية” تقوم بمهام أمنية واستخباراتية لصالح إسرائيل. اتهمت حماس عناصر أبو شباب بالمشاركة في عمليات خطف لنشطاء من الفصائل الفلسطينية لصالح جهاز الشاباك، بل والضلوع في قتل بعضهم. من بين هذه الحالات قتل القيادي في “كتائب المجاهدين” محمد أبو مصطفى، واختطاف الممرضة تسنيم الهمص من خان يونس وتسليمها للقوات الإسرائيلية.
النهب المنظم: عصابة تحت حماية الاحتلال
بينما ادّعى أبو شباب أنه يعمل على حماية قوافل المساعدات الإنسانية “للشعب الفلسطيني”، كانت الحقيقة القاسية أن “القوات الشعبية” تشكّل عصابة نهب منظمة على نطاق واسع. في مايو 2025، بدأت المجموعة بمهاجمة شاحنات المواد الغذائية والإمدادات التي تدخل غزة، ونهب محتوياتها تحت ذريعة “الأمن” و”مكافحة الإرهاب”.
وصلت الجريمة إلى ذروتها في نوفمبر 2025، عندما نفذ أفراد مجموعة أبو شباب عملية نهب كبرى لقوافل المساعدات بالقرب من معبر كرم أبو سالم. يؤكد جوناثان ويتال، رئيس مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أن عصابات مثل عصابة أبو شباب مسؤولة عن “السرقة الحقيقية للمساعدات منذ بداية الحرب” وأن هذا يتم “تحت أنظار القوات الإسرائيلية”.
الفرقة بين أبو شباب والقادة الآخرين في المقاومة أو حتى المتعاونين التقليديين، هو أنه اختار البقاء في المناطق تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة. تركز عملياته في شرق رفح وجنوب شرقي خان يونس، وهي مناطق خاضعة كاملة للجيش الإسرائيلي، خالية تقريباً من السكان باستثناء أفراد من قبيلة الترابين. هذا الموقع الجغرافي جعله تماماً تحت حماية عسكرية إسرائيلية مباشرة وغير قابلة للفشل—أو هكذا اعتقد.
الموقف الموحد ضد الخيانة: الشعب والمقاومة
لكن ما اكتشفه أبو شباب بقسوة هو أن الشعب الفلسطيني لا يتسامح مع الخونة، بغض النظر عن قوتهم العسكرية أو حمايتهم الإسرائيلية. حتى عشيرته الخاصة، قبيلة الترابين، تبرأت منه بسبب “دعمه لقوات الاحتلال الصهيوني” وأعلنت علناً أنها لا تمانع في تصفيته الفورية.
المجتمع الفلسطيني بشكل أوسع رأى في أبو شباب رمزاً للفساد والخيانة. النقاد أطلقوا عليه لقب “بابلو إسكوبار غزة“—مقارنة مؤلمة تجسد طبيعته العصابية الحقيقية. لم يكن الخلاف مع حماس وحدها، بل كان عداء الشارع الفلسطيني الذي رفضه كعائن وخيانة حية.
الروايات المتضاربة: موته في حاضر غامض
في صباح الرابع من ديسمبر 2025، اندلعت اشتباكات مسلحة في شرق رفح بين مجموعة أبو شباب وعدد من أفراد القبائل الفلسطينية، على وجه التحديد من عائلتي أبو سنيمة والدباري، وكلاهما من قبيلة الترابين. اختلفت الروايات حول ما حدث بالضبط، لكن النتيجة كانت واحدة: مقتل الزعيم المسلح الأقوى في جنوب غزة.
الرواية الرسمية للقوات الشعبية: قالت القوات الشعبية في بيان رسمي أن أبو شباب قتل برصاصة خلال محاولته فض نزاع عائلي بين أفراد عائلة أبو سنيمة. أكدت المجموعة على أنهم يرفضون “بشدة” الأنباء المتداولة عن مقتله على يد عناصر من حماس، معتبرة أن حماس “ضعيفة جداً” لتنفيذ مثل هذه العملية.
الرواية الإسرائيلية: نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، نقلاً عن مصادر أمنية إسرائيلية رسمية، أن أبو شباب قتل متأثراً بالضرب المبرح خلال شجار داخلي مع عناصر آخرين في مجموعته حول قضايا تتعلق بـ”التعاون مع إسرائيل”. أشارت الصحيفة إلى أنه “تعرض لاعتداء شديد أثناء مشاجرة، وتوفي قبل وصوله إلى مستشفى سوروكا في بئر السبع”.
مصادر محلية من رفح: أفادت مصادر من عائلة أبو سنيمة أن الخلاف بدأ بمطالبة بالإفراج عن محتجز من عائلتهم، وتطور إلى تبادل إطلاق نار ميداني. تشير التقارير إلى أن شخصاً عاد إلى موقع الاشتباك حاملاً سلاحاً أوتوماتيكياً من نوع BKC وأطلق النار بشكل عشوائي، ما أسفر عن إصابة عدد من الأشخاص كان من بينهم أبو شباب نفسه.
الموقف الإسرائيلي الرسمي: أعلنت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن تقديرات إسرائيل تشير إلى احتمال أن يكون أبو شباب قد قُتل “على يد أحد رجاله”، بينما رجحت مصادر إسرائيلية أخرى أن تكون حركة حماس قد نفذت العملية، إذ كانت تمتلك معلومات استخباراتية عنه جمعتها من مصادر قريبة منه.
التضارب في الروايات يعكس الفوضى الأمنية والسياسية التي تسود تلك المناطق. لكن غض النظر عن التفاصيل التكتيكية، فإن النقطة الجوهرية واضحة: شخص تحت حماية عسكرية إسرائيلية مشددة لقي مصرعه، وهو ما يعكس إما ثغرة أمنية حقيقية في منظومة الحماية الإسرائيلية أو أن القوات الإسرائيلية لم تكن معنية حقاً بإنقاذ حليفها.
الأبعاد الاستراتيجية: انهيار المشروع الإسرائيلي
كانت إسرائيل تعول على مجموعة أبو شباب لمشروع استراتيجي بعيد المدى. في يونيو 2025، أفادت التقارير أن إسرائيل وافقت على تولي المجموعة دوراً حاكماً في جنوب غزة كبديل لحماس. كانت الخطة أن تتولى “القوات الشعبية” تأمين أعمال إعادة الإعمار في رفح وتطبيق نموذج إداري موازٍ لإدارة حماس.
مصادر إسرائيلية قالت قبل أيام من مقتل أبو شباب إن مجموعات أبو شباب ستتولى تأمين أعمال إعمار رفح باعتبارها منطقة خاضعة للسيطرة الإسرائيلية. كانت هذه محاولة إسرائيلية صريحة لتجاوز حماس وإنشاء هيكل إداري بديل يخضع لنفوذ إسرائيلي.
بمقتل أبو شباب، انهار هذا المشروع بشكل كارثي لإسرائيل. الآن تواجه القيادة الإسرائيلية واقعاً مُرّاً: المشروع الذي استثمرت فيه مئات الملايين من الدولارات بالأسلحة والمعدات والدعم الاستخباراتي انهار في لحظة.
الإرث: خيانة لا تُمحى
ياسر أبو شباب ترك وراءه إرثاً مظلماً يعكس الفساد والخيانة والاستسلام التام لمشروع الاحتلال. لم يكن مجرد متعاون أمني بل كان عميلاً نشطاً في شبكة تجسس واسعة موصولة بـ جهاز الشاباك الإسرائيلي.
أعلنت حركة حماس في بيان رسمي أن مقتل أبو شباب يمثّل “النتيجة الحتمية لمن اختار خيانة شعبه والوقوف بجانب الاحتلال“. وأضافت أن “الأعمال الإجرامية التي ارتكبها ياسر أبو شباب ضد شعبنا كانت بموجب توصيات من جهات الاحتلال”.
لم يحصل أبو شباب على مقبرة شريفة ولم يترك وراءه بناء حقيقي. ترك فقط جثة دموية تحكي قصة الخيانة والفساد، وتحذير مرعب لأي من قد يفكر في السير في نفس الطريق.
مقتل ياسر أبو شباب يختزل الحقيقة المريرة للتعاون مع الاحتلال: لا أمان، لا ضمانات، لا مستقبل. حاول أبو شباب أن يكون وسيطاً بين عالمين—يخدم إسرائيل بينما يدّعي حماية الفلسطينيين. لكنه وجد نفسه في الواقع عبداً لسيد واحد فقط: الاحتلال.
المشروع الإسرائيلي الذي استثمرت فيه الكثير، بناء نظام إداري مناهض لحماس من خلال الميليشيات المسلحة، سقط مع سقوط قائده الرئيسي. والآن تواجه إسرائيل أسئلة حرجة عن جدوى هذه الاستراتيجية، وعن السبب الذي يجعل كل محاولة لتأسيس “بديل” عن المقاومة تنتهي بالفشل.
لشعب غزة، كان موت أبو شباب رسالة قوية: أن الخيانة لها ثمن، والجنود الذين يدافعون عن القضية سيصلون دائماً إلى الخونة، مهما كانت قوتهم العسكرية أو حمايتهم الخارجية. وفي هذا السياق، يبقى ياسر أبو شباب مثالاً مظلماً لمن يختار الاحتلال على وطنه—نهاية قاسية كما استحق.
منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز



