spot_img

ذات صلة

جمع

تحقيق استقصائي: مؤسسة غزة الإنسانية – آلة القتل المُقنعة بقناع المساعدات

يكشف هذا التحقيق الاستقصائي المعمق عن الحقيقة المروعة وراء...

ريتشارد هيوز.. مهندس ميركاتو ليفربول التاريخي

عندما ترى ريتشارد هيوز يصافح المدرب الهولندي آرني سلوت...

متى نصر الله؟ سؤال جوهري في ضوء الأحداث والمجريات الحاصلة في غزة وسوريا

يُطرح في الأوساط الفكرية المعاصرة تساؤل عميق حول علاقة...

الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة: سوريا في مواجهة أعلى الرسوم عالمياً

تشهد السياسة الأميركية تجاه سوريا تناقضاً صارخاً يثير تساؤلات...

تحوّل تكتيكي أم تخدير أخلاقي؟ قراءة في خطاب الجوع الأميركي

في لحظة تاريخية نادرة، وجد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه مضطراً للاعتراف بما لم يعد بإمكان أحد إنكاره: “يبدو هؤلاء الأطفال جائعين للغاية، هذا يبدو مجاعة حقيقية، أرى ذلك ولا يمكنك تزييفه”. هكذا، وبعد أشهر من إنكار وجود مجاعة في قطاع غزة، انتقل الخطاب الأمريكي الرسمي من مرحلة الإنكار إلى مرحلة جديدة يمكن وصفها بـ”خطاب الجوع العاطفي”، الذي يقر بالمأساة الإنسانية دون أن يتطرق إلى أسبابها السياسية أو يحمّل المسؤولية لمن يستحقها.

التحول في الخطاب: من الإنكار إلى العاطفة المجردة

مراحل التطور الخطابي

شهد الموقف الأمريكي من أزمة الجوع في غزة تطوراً متدرجاً يعكس حالة من التخبط السياسي أكثر منها تحولاً جوهرياً في السياسة. ففي المرحلة الأولى، كان ترامب ينكر تماماً وجود مجاعة، مدعياً أن “الأمر ربما يتعلق بسوء تغذية فحماس تسرق المساعدات”. وهو موقف يتماشى مع الرواية الإسرائيلية التي تحاول إخفاء حجم الكارثة الإنسانية التي تسببت بها الحرب والحصار.

لكن مع انتشار صور الأطفال الجائعين على نطاق واسع، وتصاعد الانتقادات حتى من داخل قاعدته الانتخابية، اضطر ترامب للانتقال إلى المرحلة الثانية: الاعتراف المتردد بالواقع. فقال: “لا يمكن لأي إنسان لديه قلب أن ينكر جوع أطفال غزة إلا لو كان أحمق”. وهو اعتراف يحمل دلالات مهمة، إذ يُظهر أن الضغط الشعبي والإعلامي نجح في إجبار الإدارة الأمريكية على مراجعة خطابها العلني.

الخطاب العاطفي الجديد

في المرحلة الثالثة والحالية، تبنى ترامب خطاباً عاطفياً يركز على “إطعام الناس” دون التطرق للأسباب الجذرية للمجاعة. فقال: “نريد مساعدة الناس، نريد مساعدتهم على العيش، نريد إطعامهم. كان ينبغي أن يحدث هذا منذ وقت طويل”. وهو خطاب يبدو إنسانياً في ظاهره، لكنه في الواقع يخدم أجندة سياسية محددة تهدف إلى:

  1. تبييض الصورة الأمريكية دون المساس بالدعم الاستراتيجي لإسرائيل

  2. احتواء الانتقادات المتزايدة من داخل القاعدة الجمهورية

  3. إعادة تموضع الولايات المتحدة كطرف “إنساني” في الأزمة

  4. تجنب المساءلة عن الدور الأمريكي في استمرار الحصار والحرب

الأكاذيب والمبالغات: استراتيجية التضليل

فضيحة الـ60 مليون دولار

في محاولة لتعزيز صورته كمنقذ إنساني، ادعى ترامب مراراً أن الولايات المتحدة “أرسلت 60 مليون دولار كمساعدات غذائية لغزة”، مشتكياً من أن “لم يشكرنا أحد” على هذا الجهد المزعوم. لكن تحقيقاً صحفياً أجرته صحيفة “واشنطن بوست” كشف أن هذا الرقم كان مبالغاً فيه بشكل فاضح، حيث بلغت المساعدات الفعلية التي وصلت إلى غزة 3 ملايين دولار فقط، أي 20 ضعفاً أقل مما ادعاه الرئيس الأمريكي.

هذا التضليل المتعمد يكشف عن طبيعة الخطاب الترامبي الجديد: استخدام الأرقام المضخمة لخلق انطباع زائف بالجهد الإنساني الأمريكي، بينما الواقع يُظهر تقاعساً واضحاً في تقديم المساعدات الفعلية. كما أن وزارة الخارجية الأمريكية اضطرت لتصحيح هذا الرقم مرتين، مما يُظهر مدى الارتباك في الموقف الرسمي.

آلية “مؤسسة غزة الإنسانية”: أداة سياسية متنكرة

بدلاً من العمل مع المنظمات الدولية المتخصصة مثل الأمم المتحدة، فضلت الإدارة الأمريكية إنشاء “مؤسسة غزة الإنسانية” بالتعاون مع إسرائيل. وقد وصفت منظمة “هيومن رايتس ووتش” هذه الآلية بأنها “مصيدة موت” و”نظام توزيع مساعدات عسكري” يهدف إلى “تجميع الفلسطينيين وإجبارهم على التهجير من أراضيهم”.

الأرقام تتحدث عن نفسها: منذ بدء عمل هذه المؤسسة في 27 مايو 2024، قُتل أكثر من 1422 فلسطينياً وأُصيب أكثر من 10 آلاف آخرين أثناء انتظار المساعدات، معظمهم نتيجة إطلاق الجيش الإسرائيلي النار على منتظري المساعدات. هذه الأرقام المرعبة تكشف أن ما يُسمى “مساعدات إنسانية” تحوّل إلى أداة قتل إضافية بحق الفلسطينيين.

تآكل القاعدة الشعبية: أزمة داخلية متنامية

انقسام حركة “ماغا”

يواجه ترامب أزمة حقيقية داخل قاعدته الانتخابية بشأن الدعم الأمريكي لإسرائيل. فقد أصبحت النائبة الجمهورية مارجوري تايلور جرين، وهي من أبرز وجوه حركة “ماغا”، أول عضوة جمهورية في الكونغرس تصف الحرب في غزة بأنها “إبادة جماعية”. هذا التصريح يُمثل كسراً لتابو سياسي كبير داخل الحزب الجمهوري، ويُظهر مدى تأثير صور المجاعة على الرأي العام الأمريكي.

كما حذر ستيفن بانون، مستشار ترامب السابق، من أن “قاعدة مؤيدي ماغا الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً لا تحظى بدعم يُذكر لإسرائيل”. وأضاف أن “محاولة نتنياهو إنقاذ نفسه سياسياً بجرّ أمريكا إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط قد أبعدت شريحة كبيرة من مؤيدي ماغا الأكبر سناً”.

التحول الجيلي في الرأي العام

تُظهر استطلاعات الرأي تحولاً دراماتيكياً في الموقف الأمريكي من إسرائيل. فقد انخفضت نسبة الأمريكيين الذين يرون أن العمليات الإسرائيلية “مبررة تماماً” من 50% في أكتوبر 2023 إلى 23% فقط في يوليو 202511. وهو انخفاض يقارب النصف في أقل من عامين.

الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لإسرائيل هو الموقف الجيلي: فقط 10% من الشباب الأمريكيين دون 35 عاماً يعتبرون العمليات الإسرائيلية مبررة، بينما يراها 33% غير مبررة على الإطلاق11. كما أن 50% من الجمهوريين دون سن 50 عاماً لديهم نظرة سلبية تجاه إسرائيل، مقارنة بـ35% في عام 2022.

هذا التحول الجيلي يُمثل تهديداً استراتيجياً طويل المدى للعلاقة الأمريكية-الإسرائيلية، خاصة أن الجيل الجديد “لم يتأثر بالخلفيات التاريخية التي شكلت مواقف الجمهوريين الأكبر سناً”. كما أن هذا الجيل يعتمد بشكل أكبر على وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على المعلومات، مما يعني تعرضه المباشر لصور المعاناة الفلسطينية دون مرشحات إعلامية تقليدية.

الدوافع الحقيقية: سياسة داخلية لا إنسانية

احتواء الأزمة السياسية

الدافع الحقيقي وراء “خطاب الجوع الأمريكي” ليس إنسانياً بل سياسياً بحت. فترامب يواجه تحدياً مزدوجاً: من جهة، يحتاج للحفاظ على الدعم الاستراتيجي لإسرائيل لأسباب أيديولوجية ومالية وانتخابية. ومن جهة أخرى، يواجه ضغطاً متزايداً من قاعدته الشعبية التي تأثرت بصور المجاعة والقتل في غزة.

الحل الذي اختاره ترامب هو “الخطاب المزدوج”: إظهار تعاطف عاطفي مع معاناة الفلسطينيين مع الحفاظ على الدعم المادي والسياسي لإسرائيل. هذا النهج يهدف إلى:

  1. تهدئة الانتقادات الداخلية دون تغيير السياسات الفعلية

  2. إعادة تموضع أمريكا كطرف “محايد” أو “وسيط” في الصراع

  3. امتصاص الغضب الشعبي من خلال إلقاء اللوم على حماس

  4. كسب الوقت لتمرير صفقة سياسية تخدم المصالح الإسرائيلية

“أزمة لوجستية” لا سياسية

الخطر الأكبر في الخطاب الترامبي الجديد أنه يعيد تأطير الصراع في غزة على أنه “أزمة لوجستية” تحتاج إلى “تنظيم وجبات” وليس “وقف نار”. هذا التأطير يخدم الأجندة الإسرائيلية التي تريد فصل الجانب الإنساني عن الجانب السياسي، مما يسمح بتقديم “مساعدات” محدودة مع استمرار الحرب والحصار.

ووفقاً لهذا المنطق، تصبح المشكلة في “سوء التوزيع” أو “سرقة حماس للمساعدات” وليس في الحصار الإسرائيلي أو القصف المستمر. هذا التضليل يخفي حقيقة أن إسرائيل تمنع دخول المساعدات الكافية منذ بداية الحرب، وأن 1.2 مليار شيكل من السيولة المطلوبة مفقودة من النظام المصرفي في غزة بسبب السياسات الإسرائيلية12.

المخاطر المستقبلية: تسويق صفقة القاتل

“أطعموا الضحية ووقعوا على شروط القاتل”

الخطر الأكبر في “خطاب الجوع الأمريكي” أنه يمهد الطريق لتسويق صفقة سياسية مجحفة. فمن خلال إظهار “التعاطف الإنساني” مع الفلسطينيين، تحاول الإدارة الأمريكية خلق أجواء مناسبة لفرض حل سياسي يلبي المطالب الإسرائيلية مقابل “وعود إنسانية” فارغة.

هذا النهج يذكرنا بما حدث في اتفاقيات أوسلو، حيث قُدمت “مكاسب إنسانية” محدودة مقابل تنازلات سياسية كبيرة. والفرق اليوم أن الوضع الفلسطيني أضعف بكثير، مما يجعل أي “صفقة” مطروحة أكثر إجحافاً.

إعادة تشكيل المعركة

ما نشهده اليوم هو محاولة أمريكية منهجية لإعادة تشكيل طبيعة الصراع في غزة. فبدلاً من كونه صراعاً بين احتلال ومقاومة، أو بين معتدٍ وضحية، يُعاد تقديمه كـ”مشكلة إنسانية” تحتاج لـ”حلول لوجستية”. هذا التأطير الجديد يخدم الرواية الإسرائيلية التي تريد تجريد الصراع من بُعده السياسي والحقوقي.

كما أن هذا الخطاب يساعد في تطبيع الجرائم الإسرائيلية من خلال تحويل الانتباه من “من المسؤول عن المجاعة؟” إلى “كيف نحل مشكلة الجوع؟”. وهو تحويل خطير يُعفي إسرائيل من المساءلة ويحوّل الضحية إلى مستفيد من “كرم” الجلاد.

تبييض أخلاقي لا تحوّل حقيقي

في النهاية، يُمثل “خطاب الجوع الأمريكي” تحولاً تكتيكياً في الشكل لا جوهرياً في المضمون. فرغم الكلمات العاطفية والوعود الإنسانية، تبقى السياسة الأمريكية الفعلية كما هي: دعم مطلق لإسرائيل مع محاولة تجميل الصورة الخارجية.

هذا التحول يعكس حالة من الضعف لا القوة، حيث اضطرت الإدارة الأمريكية لتغيير خطابها تحت ضغط الرأي العام، لكنها رفضت تغيير سياساتها الفعلية. وهو ما يُظهر أن الضغط الشعبي والإعلامي نجح في إحراج الموقف الأمريكي، لكنه لم ينجح بعد في تغييره جذرياً.

الأخطر من ذلك أن هذا “التبييض الأخلاقي” قد يخدع البعض ويُقلل من الضغط على الإدارة الأمريكية، مما يُعطيها مساحة أوسع لتمرير السياسات نفسها تحت غطاء “إنساني” جديد. لذلك، من المهم كشف هذا التضليل وفضح الدوافع الحقيقية وراء “خطاب الجوع الأمريكي”، الذي لا يهدف لإنقاذ الفلسطينيين بل لإنقاذ الصورة الأمريكية والإسرائيلية.

إن الاختبار الحقيقي لصدق هذا الخطاب ليس في الكلمات العاطفية أو الوعود الإنسانية، بل في السياسات الفعلية: هل ستتوقف الولايات المتحدة عن تزويد إسرائيل بالأسلحة؟ هل ستدعم وقف إطلاق النار الفوري؟ هل ستضغط لرفع الحصار عن غزة؟ وحتى تتحقق هذه الخطوات العملية، يبقى “خطاب الجوع الأمريكي” مجرد تبييض أخلاقي لسياسة إجرامية لا تزال مستمرة.

فريق التحرير

منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز

spot_imgspot_img