في مساء العاشر من أغسطس 2025، سكت صوت كان يهز أركان الظلم، وانطفأت عدسة كانت تفضح جرائم الاحتلال، واستُشهد القلب الذي كان ينبض بحب فلسطين.
أنس الشريف، الشاب النحيل ابن مخيم جباليا، الذي حول كاميرته إلى سلاح ضد النسيان وصوته إلى صرخة في وجه الصمت العالمي، لم يكن مجرد صحفي – كان ضمير شعب بأكمله.
ابن جباليا الذي رفض الصمت
وُلد أنس جمال محمود الشريف في الثالث من ديسمبر 1996 في مخيم جباليا للاجئين، ذلك المكان المكتظ بالأحلام والآلام، حيث تتراكم قصص المنفى فوق بعضها البعض مثل بيوت الصفيح. في أزقة ذلك المخيم الضيقة، فتح أنس عينيه على واقع مرير، لكنه رفض أن يغمضهما أمام الظلم.
كان يحلم منذ طفولته بالعودة إلى عسقلان المجدل، القرية الأصلية لعائلته، تلك الأرض التي هُجّر منها أجداده عام 1948. “كان أملي أن يمدّ الله في عمري حتى أعود مع أهلي وأحبّتي إلى بلدتنا الأصلية عسقلان المحتلة المجدل، لكن مشيئة الله كانت أسبق، وحكمه نافذ” – هكذا كتب في وصيته التي تحبس الأنفاس.
رحلة إعلامية بدأت بحلم
في عام 2014، التحق أنس بجامعة الأقصى لدراسة الإذاعة والتلفزيون، وهناك بدأت تتشكل ملامح الصحفي الذي سيصبح صوت غزة للعالم. لم يكن يعلم حينها أن دراسته ستكون بمثابة إعداد لمعركة حياة أو موت من أجل الحقيقة.
بدأ عمله كمتطوع في شبكة الشمال الإعلامية، ثم انتقل للعمل مراسلاً لقناة الجزيرة. لكن الثمن كان باهظاً منذ البداية – في 23 سبتمبر 2018، أُصيب بشظية عيار ناري في البطن خلال تغطيته مسيرة شرق جباليا. كانت تلك إشارة أولى على الطريق الشائك الذي اختاره.
عندما بدأت الحرب، بدأت الملحمة
مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في السابع من أكتوبر 2023، انخرط أنس في مهمة إعلامية تاريخية. بينما نزح معظم الصحفيين من شمال غزة خوفاً على حياتهم، بقي أنس هناك. بقي في قلب الجحيم ليروي للعالم ما يحدث.
“عشتُ الألم بكل تفاصيله، وذُقت الوجع والفقد مرارًا، ورغم ذلك لم أتوانَ يومًا عن نقل الحقيقة كما هي، بلا تزوير أو تحريف” – هكذا لخّص أنس رحلة عذابه في وصيته المؤثرة.
شاهد على مجزرة الطحين
كان أنس أول من نقل للعالم ما عُرف بـ”مجزرة الطحين”، تلك الجريمة المروعة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية نهاية فبراير 2024 عندما فتحت النار على حشود من المدنيين الجوعى الذين كانوا ينتظرون المساعدات غرب غزة. لحظات من الرعب نقلها أنس بصوته المرتجف، وعيناه الدامعتان، ليهز ضمير العالم.
وثّق أنس سياسة التجويع المنظم التي فرضها الاحتلال على شمال القطاع، ونقل معاناة الأطفال الذين يصرخون جوعاً والعائلات التي تبحث عن فتات الطعام. كانت تقاريره سكيناً في قلب الآلة الإعلامية الإسرائيلية، لذلك قرروا إسكاته.
الثمن الشخصي الباهظ
في الحادي عشر من ديسمبر 2023، جاءت الضربة الأولى التي حطمت قلب أنس. قصفت الطائرات الإسرائيلية منزل عائلته في مخيم جباليا، فاستُشهد والده. لكن حتى هذا المصاب الجلل لم يثنِ أنس عن أداء رسالته.
“استهدفوا عائلتي مراراً واستشهد والدي، وقصفوا زملائي في الميدان، فقط لأتوقف عن نقل الحقيقة لأنني أوثق المجازر وأكشف الإبادة والتجويع والنزوح والدمار وأظهر للعالم ما يحاول الاحتلال إخفاءه، لكنهم لم ينجحوا” – كتب أنس في منشور مؤثر قبل شهور من استشهاده.
التهديدات والتحريض المنظم
خلال الأشهر الأخيرة من حياته، تصاعدت التهديدات الإسرائيلية بشكل مخيف.
“تلقيت عدة اتصالات من ضباط في جيش الاحتلال الإسرائيلي”– قال أنس في إحدى مداخلاته التلفزيونية. كانت الرسالة واضحة: توقف عن التقارير أو ستموت.
صعّد الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي من هجماته الإلكترونية ضد أنس، متهماً إياه زوراً بالانتماء إلى حماس. كانت حملة تحريض ممنهجة هدفها تهيئة الرأي العام لقتله. لجنة حماية الصحفيين حذرت من أن حياة أنس في خطر حاد، لكن المجتمع الدولي لم يحركه ساكناً.
وصية من القلب إلى التاريخ
في السادس من أبريل 2025، جلس أنس ليكتب وصيته. كان يعلم أن نهايته قريبة، لكنه أراد أن يترك رسالة أخيرة للعالم:
“هذه وصيّتي، ورسالتي الأخيرة. إن وصلَتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي”.
في وصيته المؤثرة، أوصى أنس بفلسطين: “أوصيكم بفلسطين، درةَ تاجِ المسلمين، ونبضَ قلبِ كلِّ حرٍّ في هذا العالم. أوصيكم بأهلها، وبأطفالها المظلومين الصغار، الذين لم يُمهلهم العُمرُ ليحلموا ويعيشوا في أمانٍ وسلام”.
وأوصى بعائلته: “أوصيكم بقُرّة عيني، ابنتي الحبيبة شام، التي لم تسعفني الأيّام لأراها تكبر كما كنتُ أحلم. وأوصيكم بابني الغالي صلاح، الذي تمنيت أن أكون له عوناً ورفيق درب”.
ليلة الاغتيال المدبر
في مساء الأحد العاشر من أغسطس 2025، كان أنس مع زملائه في خيمة الصحفيين قرب مستشفى الشفاء. كانوا يعدون تقاريرهم الليلية، لا يدرون أن طائرة إسرائيلية مسيّرة تراقبهم من الأعلى.
في الساعة الحادية عشرة وأربعين دقيقة مساءً، انطلق الصاروخ. صاروخ واحد محدد الهدف، مبرمج لقتل الحقيقة. استُشهد أنس مع أربعة زملاء آخرين: محمد قريقع، إبراهيم ظاهر، محمد نوفل، ومؤمن عليوة. سبعة أشخاص قُتلوا في الهجوم، كلهم كانوا يحملون أحلام فلسطين في قلوبهم.
اعتراف بالجريمة وتبرير العجز
بعد دقائق من الجريمة، أصدر الجيش الإسرائيلي بياناً يقر فيه باغتيال أنس، زاعماً أنه كان “قائد خلية في حماس”. كانت الكذبة جاهزة، والوثائق المزورة معدة مسبقاً. نفس الأسلوب الذي استخدمته إسرائيل لتبرير قتل عشرات الصحفيين من قبل.
يوفال أبراهام، الصحفي الاستقصائي الإسرائيلي، كشف الحقيقة: “أعتقد أن إسرائيل قتلت أنس الشريف لمجرد أنه صحفي. الوثائق كانت وسيلة. ولذات السبب الذي جعلهم يبحثون بنشاط عن صحفيين يمكن تقديمهم كعناصر في حماس، من أجل منح ‘شرعية’ لقتل الصحفيين بشكل عام”.
رقم مرعب في سجل الموت
بمقتل أنس وزملائه، ارتفع عدد الصحفيين الشهداء في غزة إلى 237 صحفياً منذ السابع من أكتوبر. رقم لم تشهده البشرية في أي حرب عبر التاريخ. أكثر من قتلى الصحفيين في الحربين العالميتين وحرب فيتنام مجتمعة.
لجنة حماية الصحفيين أكدت أن “إسرائيل مسؤولة عن 70% من قتل الصحفيين عالمياً في 2024”، وأن “حرب إسرائيل على غزة هي الأكثر دموية للصحفيين من أي حرب سابقة”.
الاعتراف الدولي بالتضحية
في عام 2024، مُنح أنس جائزة “المدافع عن حقوق الإنسان” من منظمة العفو الدولية في أستراليا، تقديراً لشجاعته الاستثنائية والتزامه بحرية الصحافة في أصعب الظروف. عند تسلمه الجائزة، أهداها “لكل صحفي فلسطيني يغطي الأحداث وجرائم الاحتلال الإسرائيلي أثناء الحرب والحصار المستمر على قطاع غزة”.
صرخات الضمير العالمي
ردود الفعل على اغتيال أنس جاءت سريعة ومدوية. منظمة العفو الدولية أكدت أن “أنس كرّس حياته للوقوف أمام الكاميرا، ليكشف للعالم جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين، وليوثق الحقيقة حتى يشهد العالم”.
نادي الصحافة الأمريكي أعرب عن “الحزن والألم” ووصف أنس بأنه “صحفي مرموق”، داعياً إلى تحقيق شامل في ملابسات الاغتيال.
الأمم المتحدة دانت “النمط المتكرر لقتل الصحفيين من قبل القوات الإسرائيلية”، مؤكدة أن “القتل المتعمد للصحفيين جريمة حرب”.
إرث لا يموت
ترك أنس وراءه إرثاً عظيماً من التقارير التي وثقت جرائم الاحتلال. مئات الساعات من التغطية المباشرة، آلاف التقارير، وشهادات حية على أبشع حملة إبادة في القرن الحادي والعشرين.
كلماته الأخيرة في وصيته تبقى رناناً في الضمير: “لا تنسوا غزة، ولا تنسوني من صالح دعائكم بالمغفرة والقبول”.
ترك خلفه ابنته شام وابنه صلاح، اللذين سيكبران ليعرفا أن أباهما مات من أجل أن تعيش الحقيقة. ترك زوجته الصابرة ووالدته المكلومة التي فقدت زوجها أولاً ثم ابنها في نفس الحرب.
صوت لن يُسكت أبداً
اليوم، بعد رحيل أنس، يبقى صوته يدوي في أرجاء العالم. كل تقرير كتبه، وكل مقطع صوره، وكل كلمة نطق بها، تشكل صفحات مضيئة في سجل المقاومة الإعلامية الفلسطينية.
إسرائيل قتلت أنس الشريف، لكنها لم تقتل الحقيقة التي نقلها. قتلت الصوت، لكنها لم تقتل الصدى. قتلت الرجل، لكنها لم تقتل الفكرة.
أنس الشريف لم يمت. أنس الشريف تحول إلى رمز، إلى ضمير، إلى صرخة أبدية في وجه الظلم. وستبقى كلماته الأخيرة منارة لكل صحفي حر: “صوتي سيبقى شاهداً على كل جريمة حتى تتوقف هذه الحرب”.
في كل مرة يُذكر فيها اسم أنس الشريف، تُذكر معه فلسطين. وفي كل مرة تُذكر فيها فلسطين، يُذكر معها أنس. هذا هو انتصار الحقيقة على القوة، والكلمة على الرصاصة، والضمير على الآلة العمياء.
رحم الله أنس الشريف، شهيد الحقيقة وفارس الكلمة الحرة. وعاشت فلسطين حرة أبية، كما حلم وكما ضحى من أجلها.
منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز