تشهد الأراضي الفلسطينية، وتحديداً قطاع غزة، أزمة اقتصادية ومالية لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث. فمنذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023، تطورت أزمة السيولة النقدية من مشكلة مؤقتة إلى كارثة إنسانية واقتصادية حقيقية، تتجلى في وصول نسبة العمولة على سحب النقد إلى مستويات فلكية تصل إلى 53%، مما يعني أن المواطن الذي يريد سحب 1000 شيكل من حسابه البنكي يحصل على 470 شيكل فقط، بينما يذهب 530 شيكل كعمولة لما يُسمى “تجار السيولة”
جذور الأزمة: انهيار النظام المصرفي
التدمير الممنهج للبنية التحتية المالية
تُظهر البيانات الرسمية الصادرة عن سلطة النقد الفلسطينية أن 98% من البنية المصرفية في قطاع غزة قد تعرضت للتعطيل أو التدمير الكامل منذ بداية الحرب. فبعد أن كان في القطاع 56 فرعاً ومكتباً بنكياً و91 جهاز صراف آلي قبل الحرب، لم يعد هناك سوى صفر من البنوك العاملة وصفر من أجهزة الصراف الآلي في أغسطس 2025.
وقد أكدت سلطة النقد في بياناتها المتتالية أن “تعرض عدد من فروع المصارف ومقراتها للتدمير نتيجةً للقصف المستمر في كل أنحاء قطاع غزة، وتعذُّر فتح ما تبقى من فروع للقيام بعمليات السحب والإيداع في محافظات القطاع كافة، بسبب القصف والظروف الميدانية القاهرة، وانقطاع التيار الكهربائي والواقع الأمني”.
منع إدخال السيولة النقدية
يُعد منع السلطات الإسرائيلية إدخال السيولة النقدية إلى قطاع غزة العامل الحاسم في تفاقم الأزمة. فقد امتنعت إسرائيل منذ بداية الحرب عن السماح بدخول النقد الكاش، بما في ذلك الشيكل الإسرائيلي الذي يُعتبر العملة الرسمية المتداولة في الأراضي الفلسطينية.
وتشير تقارير سلطة النقد الفلسطينية إلى أن نحو 1.2 مليار شيكل من السيولة المطلوبة مفقودة من النظام المصرفي في غزة حتى منتصف 2024. هذا النقص الحاد في السيولة، إلى جانب التدمير شبه الكامل للبنية المصرفية، خلق فراغاً اقتصادياً ملأته شبكات غير رسمية من “تجار السيولة”.
تطور العمولة: من الخدمة إلى الاستغلال
المراحل الزمنية لتصاعد الأزمة
بدأت أزمة السيولة بشكل تدريجي، حيث كانت نسبة العمولة في الأشهر الأولى من الحرب حوالي 5%، وهي نسبة قريبة من المعدلات العالمية لخدمات تحويل الأموال والصرافة. ولكن مع تفاقم الأزمة وتزايد الطلب على النقد، بدأت هذه النسبة في الارتفاع التدريجي.
في مارس 2024، أعلنت سلطة النقد حالة أزمة “غير مسبوقة” في السيولة النقدية، حيث وصلت نسبة العمولة إلى 20%. وبحلول يوليو 2024، تجاوزت النسبة 37%، لتصل في أغسطس 2025 إلى مستوى قياسي يبلغ 53%.
آليات الاستغلال
تتنوع أساليب “تجار السيولة” في استغلال حاجة المواطنين للنقد. فبعضهم يطلب من المواطن تحويل مبلغ معين إلى حسابه البنكي مقابل إعطائه نقداً بعد خصم العمولة المتفق عليها. وآخرون يستخدمون أسلوب “التكييش”، حيث يقوم المواطن بتسليم بطاقته البنكية لصاحب محل تجاري ليقتطع منها مبلغاً ويسلمه نقداً مقابل عمولة.
كما ظهرت ممارسات أخرى مثل رفض التعامل بالعملات الورقية “القديمة” أو “المهترئة”، مما يضطر المواطنين لدفع عمولات إضافية لتصريف هذه العملات، رغم أنها صالحة قانونياً للتداول.
الأبعاد الشرعية: بين الضرورة والاستغلال
موقف الشريعة الإسلامية من العمولات المفرطة
أجمع علماء الشريعة الإسلامية على أن أخذ عمولات مفرطة على صرف النقد يُعتبر من الربا المحرم شرعاً. فوفقاً لفتوى جامعة النجاح الوطنية، فإن “العمولة على توفير السيولة النقدية في ظل الحروب وشح السيولة ربا، ولا يجوز لآخذ العمولة، وأما من يدفعها فإنه إذا وجدت حاجة واضطرار، فإن الحرج عنه مرفوع”.
وقد وضح العلماء أن هذه المعاملة تُعتبر “قرضاً بزيادة ربوية”، حيث يمنح الصراف المواطن قرضاً نقدياً ويأخذ بدلاً منه نقوداً من جنسه في الحساب البنكي، وإذا أخذ عمولة على ذلك فهي “زيادة ربوية”، وإذا كانت بنسبة 20% فأكثر فهو “ربا الأضعاف المضاعفة المحرم في القرآن أشد تحريم”.
التكييف الفقهي للأزمة
يُميز الفقه الإسلامي بين حالة المضطر الذي يدفع العمولة وحالة التاجر الذي يأخذها. فبالنسبة للمواطن المضطر، تنطبق عليه قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، خاصة في ظل الأوضاع الاستثنائية التي يعيشها قطاع غزة.
أما بالنسبة لتجار العمولة، فقد شدد العلماء على أن “إثمه لا يرتفع بضرورة” المحتاج، “لأنه لا ضرورة تُلجئه لأكل الربا”. وأكدت هيئة علماء فلسطين أن هذه النسب العالية “تُعد من أكل أموال الناس بالباطل واستغلال اضطرارهم للتحويل وعدم وجود بدائل لديهم”.
الاحتكار والاستغلال في الإسلام
تُعتبر ممارسات احتكار السيولة من الكبائر في الإسلام. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحتكر إلا خاطئ”. والخاطئ هو العاصي الآثم كما وضح الإمام النووي.
وقد وسع علماء المالكية والشافعية والحنابلة مفهوم الاحتكار ليشمل “كل ما يحتاج الناس إليه ويتضررون بحبسه”, وهو ما ينطبق تماماً على احتكار السيولة النقدية في ظروف الحرب والحصار.
التداعيات الاقتصادية والإنسانية
تآكل القوة الشرائية
وصلت معدلات التضخم في قطاع غزة إلى مستويات قياسية تجاوزت 500%1, مما يعني أن قيمة النقود انخفضت بشكل دراماتيكي. وعندما نضيف إلى ذلك عمولة 53% على سحب النقد، نجد أن القوة الشرائية الفعلية للمواطن لا تتجاوز ربع ما يملكه في حسابه البنكي.
وتُظهر الإحصائيات أن 9 من كل 10 عائلات في القطاع تعاني من انعدام الأمن الغذائي1, وهو ما يعكس حجم الكارثة الإنسانية الناجمة عن هذه الأزمة.
العودة إلى اقتصاد المقايضة
في ظل شح السيولة النقدية وارتفاع تكلفة الحصول عليها، اضطر كثير من المواطنين للعودة إلى أسلوب المقايضة في التعاملات التجارية. فموظف حكومي لم يتمكن من سحب راتبه قال: “لم أتقاضَ راتبي بسبب شح السيولة النقدية، واليوم أبيع بعض المعونات الغذائية التي تسلمتها في مركز الإيواء لأشتري مواد تنظيف بثمنها، نحن نرجع إلى زمن المقايضة”.
انهيار العدالة الاقتصادية
خلقت أزمة العمولة طبقتين اجتماعيتين متناقضتين: طبقة “تجار السيولة” الذين يحققون أرباحاً خيالية من استغلال محنة الناس، وطبقة المواطنين العاديين الذين يفقدون نصف أموالهم أو أكثر لمجرد الحصول على حقهم في النقد المودع في حساباتهم البنكية.
الحلول المقترحة والتدخلات الممكنة
التدخل الحكومي والرقابي
تتطلب معالجة هذه الأزمة تدخلاً حكومياً حاسماً من السلطة الفلسطينية وسلطة النقد الفلسطينية. فقد أطلقت سلطة النقد في مايو 2024 نظام “أي براق” للمدفوعات والحوالات الفوري بين البنوك وشركات خدمات الدفع، والذي يهدف إلى تسهيل المعاملات المالية الإلكترونية كبديل عن النقد.
كما تطلبت شرطة غزة من التجار والمواطنين “تداول جميع الفئات النقدية” بما في ذلك العملات “القديمة” أو “المهترئة”، في محاولة لتخفيف الضغط على السيولة المتاحة.
كسر الحصار المالي
يتطلب حل الأزمة جذرياً التدخل الدولي لكسر الحصار المالي المفروض على قطاع غزة، والسماح بإدخال السيولة النقدية الضرورية لتشغيل الاقتصاد المحلي بشكل طبيعي. كما يتطلب إعادة إعمار البنية التحتية المصرفية المدمرة وتشغيل البنوك وأجهزة الصراف الآلي.
حملات التوعية الشرعية
تلعب المؤسسات الدينية دوراً محورياً في مواجهة ثقافة الاستغلال من خلال حملات التوعية التي تُبين الأحكام الشرعية للمعاملات المالية في الأزمات. فقد دعت هيئة علماء فلسطين “التجار وأصحاب المصارف أن يتقوا الله فيما يتقاضونه مقابل قيامهم بنقل الأموال”، وطالبتهم بـ”القناعة باليسير يبارك الله لهم فيه”.
المقاطعة الشعبية
ظهرت دعوات شعبية لمقاطعة “تجار العمولة” كوسيلة ضغط اقتصادي لإجبارهم على تخفيض نسب العمولة. إحدى المواطنات كتبت على وسائل التواصل الاجتماعي: “رجائي عندكم مقاطعة السحب بالعمولة حتى لو بدك تموت من الجوع، لأنه احنا عايشين الموت بكل الحالات.. فخلينا نموت بدري ونفك”.
بين الأخلاق والواقع
تُمثل أزمة العمولة في قطاع غزة نموذجاً صارخاً لاستغلال المحن الإنسانية لتحقيق مكاسب اقتصادية، وهو ما يتعارض مع القيم الإسلامية والإنسانية الأساسية. فبينما تُبرر الظروف الاستثنائية للمواطن المضطر دفع هذه العمولات، لا يوجد مبرر شرعي أو أخلاقي لتجار السيولة الذين يحققون أرباحاً خيالية من معاناة الناس.
إن الوصول بعمولة صرف النقد إلى 53% يُعتبر جريمة اقتصادية بكل المقاييس، تتطلب تدخلاً حاسماً من جميع الأطراف المعنية. ففي الوقت الذي يحتاج فيه الشعب الفلسطيني إلى التضامن والتكافل في مواجهة المحن، يظهر هؤلاء التجار نموذجاً مشوهاً للانتهازية واستغلال الأزمات.
والحل الجذري لهذه الأزمة لا يكمن فقط في إدانة الممارسات الاستغلالية، بل في العمل على كسر الحصار المالي وإعادة بناء النظام المصرفي وتوفير البدائل الآمنة والعادلة للمواطنين. كما يتطلب تفعيل دور المؤسسات الرقابية والدينية في مراقبة هذه الممارسات ومحاسبة المسؤولين عنها.
إن شعب غزة الذي يُقاوم العدوان بكل شجاعة وصمود، يستحق أن يُحمى من الاستغلال الداخلي بنفس القدر الذي يُحمى فيه من العدوان الخارجي. والأمل معقود على تضافر الجهود الرسمية والشعبية والدينية لإنهاء هذه المهزلة الاقتصادية واستعادة العدالة في التعاملات المالية.
صحفي فلسطيني من غزة – كاتب بالشأن السياسي والعسكري بمنصة الواقع العربي، كما أملك خبرات بالتصميم الفني والإبداعي