قطاع غزة يعيش حالة استثنائية منذ أكتوبر 2023، حيث تحول الصراع إلى أزمة إنسانية ووجودية تتجاوز الجغرافيا لتشمل مصالح إقليمية ودولية متشابكة. الأسبوع الحالي (7-14 يوليو 2025) يمثل ذروة محاولات لوقف إطلاق النار، مع تقديم إسرائيل خريطة انسحاب ثالثة صباح الإثنين 14 يوليو، تتضمن تقليص المنطقة العازلة إلى 700 متر- 1.5 كيلومتر.
لكن العمق الحقيقي يكمن في الديناميكيات السياسية الداخلية، تأثير المجتمعين، استراتيجيات التأخير الإسرائيلية، تعنت إسرائيلي متعمد، وثبات حماس على الانسحاب الكامل.
هذا التقرير سيغوص في هذه الجوانب بتحليل نقدي عميق، مستندًا إلى الأحداث الحديثة، لتقديم رؤية شاملة.
العمق الاستراتيجي: الصراع على الهوية والسيطرة
الخريطة الإسرائيلية الجديدة ليست مجرد تعديل تقني؛ إنها تعكس رؤية أمنية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع في غزة. تقليص المنطقة العازلة (مثل 1.5 كيلومتر في رفح بدلاً من 3.5 كيلومتر و700 متر في بيت حانون بدلاً من 1 كيلومتر) يبدو تنازلاً، لكنه يخفي استراتيجية للحفاظ على نقاط قوة مثل محور فيلادلفي وموراج، حيث يرى الجيش الإسرائيلي أن السيطرة عليها ضرورية لمنع تهريب الأسلحة عبر الأنفاق. الهدف الأعمق هو فرض هيمنة دائمة، حيث يريد نتنياهو تقديم “سلام مؤقت” يسمح بإعادة بناء القوة الإسرائيلية دون التزام بتفكيك الاحتلال.

على الجانب الآخر، ترى حماس هذه الخطوة كاستمرار للسيطرة الإسرائيلية بأشكال جديدة، مما يدفعها للمطالبة بالانسحاب الكامل كشرط أساسي لأي هدنة. الصراع هنا ليس فقط عسكريًا، بل هو صراع هوية: هل غزة منطقة محتلة تحتاج إلى تحرير كامل (كما ترى حماس)، أم منطقة يجب إدارتها أمنيًا (كما تريد إسرائيل)؟ هذا التناقض يشكل العمق الاستراتيجي للأزمة، حيث يتحول كل طرف المفاوضات إلى أداة لفرض رؤيته الوجودية.
وضع المجتمعين وتأثيرهم على المفاوضات
المجتمع الإسرائيلي: الانقسام كمحرك ومعيق
المجتمع الإسرائيلي يعيش حالة من التقسيم العميق الذي يؤثر مباشرة على موقف الحكومة. عائلات الرهائن، البالغ عددهم حوالي 50 (20 منهم أحياء وفق تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية حتى 12 يوليو)، نظمت مسيرات يومية أمام مقر الحكومة في القدس، مطالبة بصفقة تبادل تتيح عودتهم. هذا الضغط الشعبي أجبر نتنياهو على إظهار مرونة، لكنه يواجه معارضة شديدة من اليمين المتشدد بقيادة إيتمار بن غفير (وزير الأمن القومي) وبتسلئيل سموتريتش (وزير المالية)، اللذين هددا بالانسحاب من الائتلاف إذا وافق على انسحاب كبير.
استطلاعات رأي أجريت يوم 13 يوليو من قبل معهد “ديموس” أظهرت أن 58% من الإسرائيليين يدعمون صفقة، لكن 42% يرون أنها تعزز حماس، مما يعكس الانقسام، هذا الوضع يدفع نتنياهو للتأخير كوسيلة لموازنة الضغوط، حيث يحتاج إلى إقناع حلفائه السياسيين دون فقدان قاعدته الشعبية. تأثير المجتمع هنا يضيف طبقة من التعقيد، حيث يصبح كل قرار سياسيًا قبل أن يكون استراتيجيًا.
المجتمع الفلسطيني: الصمود في وجه النار
في غزة، يعيش أكثر من 2.1 مليون نسمة تحت ظروف كارثية، حيث أفادت الأمم المتحدة يوم 11 يوليو أن 90% من السكان نزحوا، وأن 80% من البنية التحتية دُمرت. نقص الغذاء (أقل من 500 سعرة يوميًا للفرد وفق تقارير برنامج الغذاء العالمي) والدواء (مخزون المستشفيات ينفد خلال أيام) يخلق ضغطًا هائلاً على حماس للوصول إلى هدنة.
الألاعيب التي يلجأ إليها نتنياهو لكسب الوقت
نتنياهو يعتمد على سلسلة من التكتيكات المتقنة لتأخير المفاوضات، مما يعكس خبرته السياسية الطويلة. أولاً، تأجيل اجتماع مجلس الوزراء من 14 إلى 17 يوليو يمنح وقتًا إضافيًا لتقييم رد فعل حماس أو فرض شروط جديدة، مثل إعادة التركيز على السيطرة على الحدود. ثانيًا، تصريحاته المتكررة، مثل اتهامه حماس يوم 13 يوليو بـ”رفض السلام” أمام وسائل الإعلام الإسرائيلية، تهدف إلى تحويل الرأي العام ضد الطرف الآخر، مما يبرر التأخير. ثالثًا، لقاءاته السرية مع بن غفير وسموتريتش يوم 12 يوليو لإقناعهما بالبقاء في الائتلاف دون استقالة تكشف محاولة لتجنب انهيار الحكومة، وهو ما يتطلب مزيدًا من الوقت.

تحليليًا، هذه الألاعيب ليست عشوائية، بل استراتيجية محسوبة للحفاظ على سلطته وسط ضغوط متزايدة. نتنياهو يستغل الغموض لإبقاء خياراته مفتوحة، سواء كان ذلك بعودة إلى القتال أو قبول صفقة جزئية، مما يضيف فوضى للمفاوضات ويطيل أمدها بشكل متعمد.
تعنت إسرائيل: استراتيجية محكومة بالضعف
تعنت إسرائيل يظهر في عدة جوانب. أولاً، رفضها الانسحاب الكامل، حيث تؤكد على الاحتفاظ بسيطرة أمنية على محاور مثل فيلادلفي، معتبرة أن ذلك ضروري لمنع تهريب الأسلحة عبر الأنفاق (تقرير استخباراتي إسرائيلي يوم 10 يوليو أشار إلى اكتشاف 15 نفقًا جديدًا). ثانيًا، الخريطة الجديدة، على الرغم من تقليص المنطقة العازلة، تتضمن خططًا لإعادة انتشار القوات بدلاً من الانسحاب، كما أكد متحدث عسكري يوم 14 يوليو. ثالثًا، تصريحات نتنياهو التي تربط الاتفاق بعودة القتال إذا لزم الأمر تعكس موقفًا متشددًا.
تحليليًا، هذا التعنت يعكس فشلاً عسكريًا غير معلن. بعد أكثر من عامين من القتال، لم تستطع إسرائيل القضاء على حماس، مما دفعها لفرض شروط صعبة كوسيلة لإخفاء هذا الضعف. لكن هذا النهج يعرضها لعزلة دولية، حيث حذرت الولايات المتحدة يوم 13 يوليو من قطع المساعدات إذا لم تظهر مرونة. التعنت إذن ليس قوة، بل استراتيجية دفاعية في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية.

ثبات المستوى السياسي في حماس
حماس تثبت على موقفها السياسي المتمثل في الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية، رفع الحصار، وتبادل الأسرى (10 رهائن مقابل أعداد كبيرة من الفلسطينيين) ضمن هدنة دائمة. هذا الثبات يعكس استراتيجية طويلة الأمد للحفاظ على كيانها السياسي والعسكري. خلال الأسبوع، أبلغت الوسطاء في الدوحة باستعدادها لمناقشة هدنة 60 يومًا، لكنها شددت يوم 9 يوليو في اجتماعاتها مع الجهاد الإسلامي أن أي اتفاق يجب أن يؤدي إلى انسحاب كامل.
دور الوسطاء والتأثير الإقليمي
مصر تركز على تخفيض المنطقة العازلة قرب رفح (1.5 كيلومتر بدلاً من 3.5 كيلومتر) لتجنب أزمة حدودية، مع حضور رئيس المخابرات المصرية في الدوحة يوم 10 يوليو. قطر تستغل موقعها الدبلوماسي، مدعومة بـ5 ملايين دولار مساعدات أعلنت عنها يوم 11 يوليو، للضغط على حماس. الدور الأمريكي، بقيادة ستيف ويتكوف، يعكس تفاؤلاً (كما أعلن يوم 10 يوليو)، لكن تصريحات ترامب يوم 14 يوليو تشير إلى ضغط دبلوماسي مكثف على نتنياهو. تحليليًا، الوسطاء يواجهون تحديًا في كسر تعنت إسرائيل وإقناع حماس بحل وسطي، ونجاحهم يعتمد على ضمانات ملزمة، وهو أمر غامض حاليًا.
السيناريوهات المستقبلية: تحليل دقيق
سيناريو النجاح: هدنة هشة
إذا وافق مجلس الوزراء يوم 17 يوليو، قد يبدأ وقف إطلاق النار مع انسحاب جزئي (1 كيلومتر في رفح) وتبادل أسرى (10 رهائن مقابل 100 فلسطيني كما اقترحت حماس يوم 13 يوليو). لكن غياب ضمانات دائمة قد يؤدي إلى تصعيد لاحق، خاصة إذا حاولت إسرائيل فرض شروط جديدة مثل إقامة حواجز دائمة.
سيناريو الفشل: تصعيد إقليمي
فشل الاتفاق قد يؤدي إلى عمليات عسكرية متجددة، وربما أكثر عنفًا من سابقتها، وسيؤدي إلى تنفيذ خطة تهجير ممنهجة ومخطط لها مٌسبقًا،
سيناريو وسطي: تمديد معقد
تمديد المفاوضات مع ضغط أمريكي (مثل عقد قمة طارئة في واشنطن) قد يؤخر الحل، لكنه يمنح وقتًا لتذليل الخلافات. هذا الخيار يعكس العمق السياسي، حيث يتطلب توافقًا دوليًا معقدًا بين مصر وقطر والولايات المتحدة.
التحليل الشامل: عوامل النجاح والفشل
عوامل النجاح
- الضغط الأمريكي: تدخل ترامب بضمانات ملزمة (مثل مراقبة دولية) قد يكون حاسمًا، إلا أن ترمب يبدو أنه غير مدرك أو مغرر به من نتنياهو، عن طبيعة الوضع في قطاع غزة والوضع الإنساني، وهذا غير مستبعد بتاتًا.
- التوازن الاجتماعي: استجابة عائلات الرهائن والنازحين قد تدفع الطرفين للمساومة، على الرغم أن نتنياهو من بداية الحرب لم ينظر لهم بعين الرحمة أو الشفقة وذلك حرصًا على مستقبله السياسي ووضعه السياسي.
- الدور الإقليمي: تعاون مصر وقطر يمكن أن يخفف التوترات، كوسيط مهم في هذه الأزمة الكُبرى، يجب أن تكون لديهم التزامات أكبر من ذلك.
عوامل الفشل
- التعنت الإسرائيلي: استمرار الشروط الصعبة يعيق التقدم، خاصة مع التركيز على خطة الانسحاب واللعب بالأرقام.
- ألاعيب نتنياهو: التأخير المتعمد يضعف الثقة ويعزز الفوضى.
معركة العمق والمصير
الأزمة في غزة تتجاوز الخرائط لتشمل صراعًا وجوديًا واجتماعيًا وسياسيًا. العمق يكمن في تأثير المجتمعين، حيث الضغط الإسرائيلي (عائلات الرهائن) يدفع نحو حل، والمعاناة الفلسطينية تدفع لحل أيضًا. ألاعيب نتنياهو (مثل التأجيل والاتهامات) تعكس ضعفًا داخليًا، بينما تعنت إسرائيل وثبات حماس يشكلان عقبة كبيرة. النجاح يعتمد على تدخل أمريكي قوي بحلول 17 يوليو، لكن الفشل يبقى احتمالًا قويًا مع استمرار التعنت والتأخير. المستقبل يحمل مخاطر إقليمية كبيرة، مما يجعل كل لحظة حاسمة في هذا الصراع.
منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز