في لحظة تاريخية فارقة كشفت عن عمق التحولات الجيوسياسية في المنطقة، أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن حكومته أحبطت 29 محاولة لإطلاق صواريخ ومسيّرات من داخل العراق تجاه إسرائيل خلال ما يُعرف بـ”حرب الأيام الـ12″ بين إيران وإسرائيل في يونيو 2025. هذا الإعلان لا يمثل مجرد رقم إحصائي، بل يكشف عن تحول جذري في الدور العراقي من كونه عمقاً استراتيجياً للمقاومة الفلسطينية إلى حاجز يحمي إسرائيل من الهجمات المنطلقة من أراضيه، مما يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل القضية الفلسطينية والتضامن العربي معها.
التحول التدريجي: من التساهل إلى المنع المباشر
لم يحدث هذا التحول بين ليلة وضحاها، بل كان نتاج عملية تدريجية امتدت لعامين منذ تولي السوداني منصبه. يؤكد السوداني أنه “نجح منذ قرابة عامين في إبقاء بلاده على هامش الصراعات العسكرية”، مستخدماً ما وصفه بـ**”مزيج من الضغط السياسي والعسكري”** لمنع الفصائل المسلحة الموالية لإيران من التدخل في الصراع.
هذا التحول لم يكن قراراً عراقياً محضاً، بل جاء تحت ضغوط خارجية مكثفة. فقد مارست الولايات المتحدة ضغوطاً مباشرة على الحكومة العراقية، حيث طالب وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسث رئيس الوزراء العراقي بـ**”تفكيك الفصائل الشيعية المسلحة”** المعروفة باسم “المقاومة الإسلامية في العراق”. وفي المقابل، هددت إسرائيل بمهاجمة العراق إذا لم تتوقف الهجمات من أراضيه، مما وضع بغداد في موقف صعب.
آليات الإحباط: بين السياسة والقوة
كشف السوداني عن أن عملية إحباط المحاولات الـ29 تمت “وفقاً لعمليات أمنية وعسكرية عراقية محكمة”. هذه العمليات شملت:
أولاً: الضغط السياسي المباشر – أجرت الحكومة العراقية “اتصالات مكثفة بين رئيس الوزراء وقادة أحزاب وفصائل شيعية”، مرتكزة على قاعدة أساسية مفادها: “لسنا معنيين بالمشاركة في الحرب”. كما تواصلت مع إيران مباشرة لضمان عدم استخدام الأراضي العراقية للهجوم على إسرائيل.
ثانياً: التدخل العسكري المباشر – نفذت القوات الأمنية العراقية عمليات ميدانية لمنع إطلاق الصواريخ والمسيّرات، مما يعني أن الحكومة لم تكتف بالضغط السياسي بل لجأت إلى القوة المباشرة ضد الفصائل المسلحة.
الضغوط الخارجية: بين المطرقة والسندان
وضعت الضغوط الأمريكية والإسرائيلية الحكومة العراقية في موقف حرج. أبلغت الولايات المتحدة العراق بأنها استنفدت جميع وسائل الضغط على إسرائيل لمنع تنفيذ ضربات جوية على أهداف عراقية، وأن الضربات الجوية الإسرائيلية ستكون وشيكة إذا لم تمنع الحكومة العراقية هجمات الفصائل.
في المقابل، رفع رئيس الحكومة العراقية مستوى التأهب والجاهزية في الأجهزة الأمنية تحسباً لـ”هجوم إسرائيلي محتمل مخطط له ضد بلاده”. هذا الوضع أجبر بغداد على اتخاذ موقف وسطي محفوف بالمخاطر: منع الفصائل من الهجوم لتجنب الضربة الإسرائيلية، مع محاولة الحفاظ على التوازن الداخلي.
تداعيات التحول على المقاومة الفلسطينية
هذا التحول العراقي له تداعيات كارثية على المقاومة الفلسطينية. فالعراق، الذي طالما شكل عمقاً استراتيجياً للقضية الفلسطينية منذ حرب 1948، بات اليوم حاجزاً يحمي إسرائيل. الفصائل التي كانت تنطلق من العراق لمساندة غزة توقفت عن عملياتها منذ أكثر من شهر، ليس بقرار ذاتي، بل تحت ضغط الحكومة العراقية.
يؤكد الخبراء أن “انكشاف ظهر المقاومة بعد أحداث سوريا، وعدم وجود مواقف داعمة من إيران” دفع الفصائل إلى عدم التفكير في تنفيذ هجمات جديدة. كما أن الضغوط التي تواجهها الحكومة لسحب سلاحها تفرض معطيات جديدة تجعلها مجبرة على الالتزام بالتوجيهات الحكومية.
الموقف الفلسطيني والشعبي
رغم هذا التحول الحكومي، يبقى الدعم الشعبي العراقي للقضية الفلسطينية قوياً وأصيلاً. شهد العراق مظاهرات مليونية تأييداً لفلسطين، وتسابق العراقيون من كل المدن للتبرع وتقديم مساعدات إلى أهالي قطاع غزة. لكن هذا الدعم الشعبي لم يعد قادراً على التحول إلى عمل عسكري فعال بسبب الحصار الحكومي على الفصائل.
من جانبها، تواصل وزارة الخارجية العراقية تنسيقها مع مصر لإرسال مساعدات إنسانية تتضمن مستلزمات طبية ومواد غذائية. كما أعربت عن رفضها أي مخططات لتفريغ قطاع غزة من سكانه الأصليين، داعية المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته.
التحديات المستقبلية وسيناريوهات التصعيد
يواجه العراق اليوم تحديات وجودية في ظل الضغوط الأمريكية المتزايدة في عهد ترامب. هناك مشروع أمريكي تحت عنوان “فك ارتباط العراق مع إيران”، يهدف إلى تفكيك الفصائل المسلحة وسحب سلاحها، وفرض عقوبات على المؤسسات المالية العراقية المرتبطة بإيران.
تشير التقارير إلى أن “القرار متخذ من قبل الولايات المتحدة بإنهاء ملف الحشد والميليشيات الموالية لطهران في العراق”، وأن واشنطن “ستتبع الأدوات الاقتصادية والمالية أولاً، إلا إذا استفزت الفصائل الولايات المتحدة بهجوم مسلح”.
نحو مستقبل مجهول
في ظل هذه التطورات، بات مستقبل الدعم العراقي للقضية الفلسطينية مجهولاً. التحول من دولة مساندة إلى دولة مُحبطة للمقاومة يمثل نقلة استراتيجية في المعادلات الإقليمية. فالعراق الذي أطلق 39 صاروخاً على إسرائيل في حرب الخليج 199115، والذي شارك في جميع الحروب العربية-الإسرائيلية منذ 1948, بات اليوم يمنع الفصائل المُسلحة من قصف إسرائيل.
هذا التحول لا يعكس فقط ضعف موقف العراق تحت الضغوط الخارجية، بل يشير إلى تراجع عام في قوة محور المقاومة بعد سقوط النظام السوري وإضعاف حزب الله. في هذا السياق، تجد الحكومة العراقية نفسها أسيرة معادلة مستحيلة: الحفاظ على السيادة الوطنية مع تجنب الصدام المباشر مع القوى الكبرى.
إن إحباط الـ29 محاولة ليس مجرد رقم في التاريخ، بل رمز لتحول عميق في النظام الإقليمي، حيث باتت الدول العربية مضطرة للاختيار بين حماية نفسها وحماية القضية الفلسطينية. وفي هذا الاختيار الصعب، يبدو أن الواقعية السياسية تنتصر على التضامن العربي، مما يترك القضية الفلسطينية أكثر عزلة من أي وقت مضى.
منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز