spot_img

ذات صلة

جمع

تحقيق استقصائي: مؤسسة غزة الإنسانية – آلة القتل المُقنعة بقناع المساعدات

يكشف هذا التحقيق الاستقصائي المعمق عن الحقيقة المروعة وراء...

ريتشارد هيوز.. مهندس ميركاتو ليفربول التاريخي

عندما ترى ريتشارد هيوز يصافح المدرب الهولندي آرني سلوت...

متى نصر الله؟ سؤال جوهري في ضوء الأحداث والمجريات الحاصلة في غزة وسوريا

يُطرح في الأوساط الفكرية المعاصرة تساؤل عميق حول علاقة...

الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة: سوريا في مواجهة أعلى الرسوم عالمياً

تشهد السياسة الأميركية تجاه سوريا تناقضاً صارخاً يثير تساؤلات...

إيران تعيد هيكلة جهازها الأمني: تشكيل المجلس الأعلى للدفاع الوطني في أعقاب الحرب مع إسرائيل

في خطوة استراتيجية مهمة تعكس حجم التحديات الأمنية التي تواجهها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أعلنت طهران عن تشكيل “المجلس الأعلى للدفاع الوطني” في الثالث من أغسطس 2025. هذا القرار، الذي جاء بعد أكثر من شهر على انتهاء حرب الاثني عشر يوماً مع إسرائيل، يمثل إعادة هيكلة جذرية للآلة العسكرية والأمنية الإيرانية، ويهدف إلى معالجة أوجه القصور التي كشفتها المواجهة العسكرية الأخيرة.

يأتي هذا التطور في سياق إقليمي متوتر، حيث تسعى إيران لإعادة بناء قدراتها الدفاعية وترميم هيبتها العسكرية التي تضررت جراء الضربات الإسرائيلية المدمرة التي استهدفت منشآتها النووية والعسكرية. المجلس الجديد، الذي سيترأسه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، يمثل عودة لنموذج إدارة الأزمات الذي اعتمدته إيران خلال حربها الطاحنة مع العراق في الثمانينيات.

الإطار القانوني والهيكل التنظيمي

الأسس الدستورية للمجلس الجديد

تم تشكيل المجلس الأعلى للدفاع الوطني بموجب قرار من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، استناداً إلى المادة 176 من الدستور الإيراني، والتي تخول هذا المجلس إنشاء “مجالس فرعية مثل مجلس الدفاع ومجلس الأمن القومي” وفقاً لمسؤولياته. هذا الإطار الدستوري يمنح المجلس الجديد شرعية قانونية راسخة ويضعه ضمن البنية المؤسسية للدولة الإيرانية.

وقد أكدت أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي أن الهيئة الدفاعية الجديدة ستقوم بـ”مراجعة خطط الدفاع وتعزيز قدرات القوات المسلحة الإيرانية بطريقة مركزية”. هذا التوجه نحو المركزية يعكس رغبة القيادة الإيرانية في تجاوز مشاكل التنسيق التي ظهرت أثناء المواجهة مع إسرائيل.

التركيبة والعضوية

يضم المجلس الأعلى للدفاع الوطني نخبة القيادات السياسية والعسكرية في إيران، حيث سيترأسه الرئيس مسعود بزشكيان، ويشمل رؤساء السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، بالإضافة إلى كبار قادة القوات المسلحة والحرس الثوري. كما يتضمن المجلس ممثلين عن وزارات الدفاع والاستخبارات والخارجية، وممثلين اثنين عن المرشد الأعلى علي خامنئي.

ما يُميز هذا المجلس عن المجلس الأعلى للأمن القومي التقليدي هو إدراج قائد مقر خاتم الأنبياء المركزي، المسؤول عن العمليات المشتركة والحربية، مما يخلق ربطاً مباشراً بين هذه المؤسسة العسكرية والقيادة السياسية. هذا التغيير يعكس الدروس المستفادة من الحرب الأخيرة حول ضرورة تحسين التنسيق العسكري.

السياق التاريخي: دروس من حرب الخليج الأولى

إحياء نموذج إدارة الحروب

المجلس الأعلى للدفاع الوطني ليس مفهوماً جديداً في النظام السياسي الإيراني، فقد كان له دور محوري خلال الحرب الإيرانية-العراقية (1980-1988) التي خلفت حوالي مليون قتيل من الجانبين. خلال تلك الفترة الدموية، أثبت هذا المجلس فعاليته في تنسيق الجهود العسكرية وإدارة موارد الدولة في زمن الحرب.

بعد انتهاء الحرب مع العراق، تم دمج المجلس في البنية الأمنية الوطنية لإيران إثر إصلاحات دستورية. لكن إحياءه اليوم يشير إلى أن القيادة الإيرانية تعتبر التحديات الأمنية الحالية بمثابة تحدٍ وجودي يتطلب استخدام الآليات الاستثنائية المخصصة لأوقات الحرب.

الدروس المستفادة من حرب الاثني عشر يوماً

الحرب التي دارت بين إسرائيل وإيران من 13 إلى 24 يونيو 2025، والمعروفة باسم “حرب الاثني عشر يوماً”، كشفت عن ثغرات خطيرة في البنية العسكرية والأمنية الإيرانية. العملية الإسرائيلية “الأسد الصاعد” نجحت في اختراق الدفاعات الجوية الإيرانية وتدمير مواقع استراتيجية حيوية، بما في ذلك قواعد الصواريخ والمنشآت النووية.

أسفرت الحرب عن مقتل أكثر من 1100 إيراني، بينهم قادة عسكريون رفيعو المستوى وعلماء نوويون، مقابل 29 قتيلاً إسرائيلياً. هذا التفاوت الكبير في الخسائر أجبر القيادة الإيرانية على إعادة تقييم استراتيجيتها الدفاعية بشكل جذري.

التحديات التي كشفتها الحرب

اختراق شبكات الاستخبارات

من أبرز الدروس المؤلمة للحرب كان الكشف عن الاختراق العميق للشبكات الاستخباراتية الإيرانية من قبل الموساد الإسرائيلي. تقارير إيرانية أشارت إلى أن إسرائيل نجحت في تفكيك “حوالي 90% من شبكات التجسس التابعة للموساد داخل إيران” خلال النزاع، لكن هذا جاء بعد أن تمكن الإسرائيليون من استخدام هذه الشبكات لتوجيه ضربات دقيقة ومدمرة.

هذا الاختراق الاستخباراتي لم يقتصر على جمع المعلومات، بل تعداه إلى عمليات تخريب مباشرة باستخدام طائرات مسيّرة وعمليات سرية نفذها عملاء على الأرض، مما أدى إلى تعطيل أنظمة الدفاع الجوي ومنشآت الصواريخ في عدة مدن إيرانية.

ضعف التنسيق العسكري

كشفت الحرب عن “تشتت في صنع القرار” و”نقص في التنسيق الكافي بين المؤسسات المختلفة” حسب ما أقرت به وسائل الإعلام الإيرانية. هذا الضعف في التنسيق أدى إلى بطء في الاستجابة وتضارب في القرارات العسكرية، مما سهل على إسرائيل تحقيق أهدافها العسكرية بكفاءة أكبر.

الأهداف الاستراتيجية للمجلس الجديد

تحسين سرعة اتخاذ القرارات

الهدف الأساسي من تشكيل المجلس هو إنشاء “نظام صنع قرارات أكثر استباقية وكفاءة للاستجابة للصراعات المستقبلية”. المجلس سيتولى “اتخاذ خطوات سريعة ومتوازنة ومنسقة لمواجهة التهديدات المحيطة بإيران”، مما يعكس إدراك القيادة الإيرانية للحاجة إلى آليات قرار أكثر مرونة وسرعة.

وقد أكد منصور حقيقت بور، السياسي المقرب من مستشار خامنئي علي لاريجاني، أن إحياء مجلس الدفاع “تطور إيجابي” سيحول الأركان العامة للقوات المسلحة إلى “هيئة تنسيقية بدلاً من هيئة قيادية”. هذا التحول يهدف إلى تجنب التداخل في الصلاحيات الذي أعاق الفعالية العسكرية في الماضي.

مواجهة التهديدات المعقدة

المجلس يهدف إلى ضمان “موقف عسكري منسق استجابة للتهديدات المعقدة والمتطورة” على المستويين الإقليمي والدولي. هذا التوصيف يعكس إدراك القيادة الإيرانية أن التهديدات الحديثة تتطلب استجابة متعددة الأبعاد تتجاوز الحلول العسكرية التقليدية.

كما يسعى المجلس إلى تعزيز “الرشاقة والتركيز في صنع القرارات الدفاعية للبلاد” في ظل “التحديات الأمنية الجديدة وتعقيد التهديدات الإقليمية والعالمية”10. هذا يشير إلى فهم أعمق للطبيعة المترابطة للتهديدات في القرن الحادي والعشرين.

التغييرات القيادية المرتقبة

عودة علي لاريجاني

من أبرز التطورات المرتقبة تعيين علي لاريجاني، المستشار الكبير للمرشد الأعلى ورئيس البرلمان السابق، كأمين جديد للمجلس الأعلى للأمن القومي خلافاً لعلي أكبر أحمدي آن. لاريجاني، الذي شغل هذا المنصب سابقاً من 2005 إلى 2007، يُعتبر من الشخصيات البراغماتية المحافظة التي تتمتع بثقة خامنئي.

هذا التعيين المرتقب يُفسر كإشارة إلى “تحول نحو نهج أكثر براغماتية في النظام الإيراني”. لاريجاني، الحائز على دكتوراه في الفلسفة الغربية من جامعة طهران، معروف بمهاراته التفاوضية وخبرته في إدارة الملف النووي الإيراني.

إعادة تنظيم المسؤوليات

علي أكبر أحمدي آن، الأمين الحالي للمجلس الأعلى للأمن القومي، سيتولى “مسؤولية عدة ملفات خاصة واستراتيجية” توصف بأنها “مهام رفيعة المستوى واستراتيجية تتطلب التنسيق والإدارة على المستوى الكلي”. هذا التوصيف الغامض يشير إلى أن أحمدي آن سيحتفظ بدور مهم في إدارة الأزمات الاستراتيجية.

التحليل السياسي: دلالات التغيير

تعزيز دور المعتدلين

يُلاحظ أن “العناصر المعتدلة والبراغماتية في النظام الإيراني تبدو وكأنها تقود إعادة هيكلة جهاز صنع القرار في إيران”. الرئيس المعتدل مسعود بزشكيان، الذي يترأس المجلس الأعلى للأمن القومي، سيرأس مجلس الدفاع وسيعين أمينه. كما أن رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، الذي يُصنف كمحافظ براغماتي، يُتوقع أن يلعب دوراً مهماً في المجلس الجديد.

هذا التوزيع للأدوار يشير إلى محاولة لإيجاد توازن بين الخطوط المتشددة والمعتدلة داخل النظام الإيراني، خاصة في ظل الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة.

البرلمان ودوره المتنامي

من اللافت أن البرلمان الإيراني لعب “دوراً بارزاً في التأثير على السياسة الأمنية الداخلية والخارجية الإيرانية” عقب الحرب مع إسرائيل. فقد دعم وأقر البرلمان “كمية شاذة من التشريعات المتعلقة بالأمن”، بما في ذلك تشريعات تهدف إلى مزيد من قمع المعارضة الداخلية.

هذا الدور المتزايد للبرلمان يعكس رغبة النظام في إضفاء شرعية برلمانية على إجراءاته الأمنية المشددة، وهو تكتيك يهدف إلى تعزيز التماسك الداخلي في مواجهة التحديات الخارجية.

التحديات المستقبلية

الحفاظ على التماسك الداخلي

أحد أبرز التحديات التي تواجه المجلس الجديد هو الحفاظ على “التماسك الوطني” الذي أصبح “ركيزة أساسية للأمن” حسب الخطاب الإيراني الجديد. هذا يمثل “تحولاً دراماتيكياً” عن التركيز التقليدي الإيراني على الردع العسكري كضامن أساسي لبقاء النظام.

المحلل السياسي مرتضى ماكي أشار إلى أن “أهم عامل في انتصار إيران” كان “التماسك الوطني”، ونصح بأن تستغل إيران فترة وقف إطلاق النار لـ”إصلاح الأنظمة الدفاعية” وأيضاً لمواصلة إجراءات الإغاثة الاقتصادية الأخيرة لتحسين معنويات الجمهور.

إعادة بناء القدرات العسكرية

التحدي الثاني يكمن في إعادة بناء البنية التحتية العسكرية التي تضررت بشدة خلال الحرب. الأدميرال محمود موسوي، رئيس العمليات في الجيش الإيراني، أكد أن القوات المسلحة الإيرانية “استعادت السيطرة التشغيلية الكاملة على المجال الجوي للبلاد” رغم الهجمات الثقيلة على البنية التحتية العسكرية الرئيسية.

لكن هذا الادعاء يواجه تشكيكاً من محللين يشيرون إلى أن إسرائيل نجحت في “إلحاق ضرر كبير بقدرات إيران الدفاعية، خاصة أنظمة الرادار بعيدة المدى وأنظمة الدفاع الجوي” . هذا يعني أن مهمة إعادة البناء ستكون أكثر تعقيداً مما تدعيه الحكومة الإيرانية.

الآثار الإقليمية والدولية

تأثير على محور المقاومة

تشكيل المجلس الجديد يأتي في وقت تواجه فيه إيران تحديات جمة في الحفاظ على ما يُسمى “محور المقاومة”. فقد أدت الحروب الأخيرة إلى “إضعاف شبكة الوكلاء الإقليمية التابعة لإيران، والتي كانت تشكل أساس استراتيجيتها غير المباشرة ضد إسرائيل”21.

سقوط نظام الأسد في سوريا وتدهور قدرات حماس وحزب الله أدى إلى “تجريد إيران من آليات الحماية التقليدية، مما أجبرها على الاستجابة بإجراءات عسكرية مباشرة تقودها الدولة”. هذا التحول من الحرب بالوكالة إلى المواجهة المباشرة يزيد من أهمية المجلس الجديد كآلية لإدارة هذا التحدي الاستراتيجي.

العلاقات مع القوى الكبرى

المجلس الجديد سيواجه تحدي إعادة تعريف علاقات إيران مع القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة والصين وروسيا. التقارير تشير إلى أن إيران تجري “محادثات متقدمة لشراء أنظمة دفاع جوي وطائرات مقاتلة من الصين استعداداً للجولة التالية من القتال مع إسرائيل”12.

هذا التوجه نحو تعميق العلاقات العسكرية مع الصين قد يثير مخاوف أمريكية وأوروبية، خاصة في ظل العقوبات المفروضة على إيران، مما يضع المجلس الجديد أمام تحدي موازنة الاحتياجات الأمنية مع العلاقات الدولية.

نحو نموذج دفاعي جديد

تشكيل المجلس الأعلى للدفاع الوطني الإيراني يمثل استجابة مدروسة لدروس الحرب المؤلمة مع إسرائيل، ومحاولة لإعادة هيكلة الجهاز الأمني والعسكري بما يتناسب مع التحديات الجديدة. المجلس، بقيادة الرئيس بزشكيان وعضوية نخبة القادة السياسيين والعسكريين، يهدف إلى تحقيق مركزية أكبر في صنع القرار وتحسين التنسيق بين المؤسسات المختلفة.

لكن نجاح هذا المجلس سيعتمد على قدرته على معالجة التحديات الأساسية التي كشفتها الحرب: الاختراق الاستخباراتي، وضعف التنسيق العسكري، وتآكل شبكة الحلفاء الإقليميين. كما سيواجه المجلس تحدي الموازنة بين الحاجة لإعادة بناء القدرات العسكرية والضغوط الاقتصادية الداخلية والعقوبات الدولية.

في النهاية، المجلس الأعلى للدفاع الوطني يمثل رهان القيادة الإيرانية على قدرتها على التكيف مع واقع استراتيجي جديد، حيث لم تعد الحرب بالوكالة خياراً مضموناً، وحيث أصبحت المواجهة المباشرة مع إسرائيل احتمالاً وارداً. مدى نجاح هذا الرهان سيحدد ليس فقط مستقبل النظام الإيراني، بل شكل الصراعات في الشرق الأوسط في السنوات القادمة.

فريق التحرير

منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز

spot_imgspot_img