في أحد الاجتماعات الأمنية الحساسة بقصر الأسد، سأل قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” الإيراني سؤالاً بسيطاً لكن مرعباً: “هل يعقل أن تترك لونا الشبل 10 آلاف دولار من أجل 500 ألف ليرة سورية؟” كان السؤال أكثر من مجرد استفسار حسابي. كان اتهاماً مباشراً: “إنها جاسوسة”.
هذا السؤال، الذي توثقه “المجلة” بناءً على مصادر قريبة من الدوائر الأمنية السورية والإيرانية، يختزل القصة كاملة عن لونا الشبل—الإعلامية السورية التي صعدت بسرعة مذهلة نحو أعلى أروقة السلطة في دمشق، ثم سقطت موتى في ظروف غامضة في يوليو 2024.
من هي لونا الشبل؟ رحلة من التلفزيون إلى الظل
ولدت لونا الشبل في سبتمبر 1974 في دمشق لعائلة درزية من محافظة السويداء. نشأت في بيئة حزبية عميقة—والدتها نايفة كانت موظفة بعث وعاملة نشطة في نظام الأسد. بدأت مسيرتها المهنية بشكل متواضع جداً: عملت في محل تصميم بطاقات أعراس بينما كانت تدرس اللغة الفرنسية في جامعة دمشق.
لكن الحياة تغيّرت بسرعة. انتقلت إلى التلفزيون السوري كمذيعة لنشرات الأخبار، ثم قفزت إلى قناة الجزيرة في أغسطس 2003، حيث كانت تتقاضى راتباً يصل إلى 10 آلاف دولار شهرياً—وهو رقم فلكي بمعايير سورية وقتذاك. كانت الجزيرة بمثابة البوابة الذهبية، حيث تعرفت على الإعلامي اللبناني سامي كليب، تزوجت منه عام 2008، وحصلت على الجنسية اللبنانية.
لكن هذا الراتب الضخم، بعيداً عن أن يثبت استقلاليتها، أصبح سؤالاً أمنياً لاحقاً. في مايو 2010، فعلت شيئاً غريباً لا يُنطق به—استقالت من الجزيرة. تركت وراءها الراتب الضخم، والمكانة العالمية، والأمان النسبي. السبب الظاهري؟ رغبة في “وضع خبراتها تحت تصرف النظام السوري“.
في ديسمبر 2011، ظهرت على شاشة قناة “دنيا” السورية الخاصة لتعلن رسمياً استقالتها من الجزيرة وعودتها إلى الوطن “الذي افتقدته”. البيان كان مثالياً، مليئاً بالعواطف الوطنية. لكن قاسم سليماني—الذي يعرف لغة المخابرات بشكل عميق جداً—لم يشتري الرواية.
الصعود السريع: من الإعلام إلى الظل
بدأت لونا عملها في مكتب الأمن الوطني الذي كان يرأسه اللواء علي مملوك، أحد أقرب المقربين من الأسد. ثم انتقلت إلى الرئاسة مباشرة في فبراير 2012، حيث تولت مسؤولية المكتب الإعلامي الذي كانت تديره بثينة شعبان—كبيرة مستشاري الأسد الإعلاميين.
هنا بدأت الحرب الحقيقية. تقول الروايات إن لونا بدأت تعمل ضد شعبان بشكل منهجي، تقللل من دورها، تبعدها عن الأسد، تقطع جسور اتصالاتها. في الوقت ذاته، كانت تقترب بسرعة من أسماء الأسد، زوجة الرئيس، مما أعطاها نفوذاً حقيقياً داخل الدائرة الحاكمة.
في 14 نوفمبر 2020، تم تعيينها رسمياً مستشارة خاصة للرئيس—وهو منصب حساس جداً لا يُمنح إلا لمن يدخلون الدائرة الضيقة جداً المحيطة بالرئيس. كانت الآن “السيدة الثانية” بالقصر بحسب تقارير إعلامية عديدة. رافقت الأسد في زياراته إلى الخارج، حضرت اجتماعاته المهمة، صارت الصوت الذي يشكل الرواية الإعلامية للنظام.
الثراء الغامض: من أين أتت الملايين؟
مع الوقت، بدأت علامات الثراء الصارخ تظهر على لونا الشبل. عقارات في دبي ودمشق، مشاريع استثمارية، حسابات بنكية تخزن ملايين الدولارات. راتبها الرسمي لم يكن أبداً كافياً لتبرير هذا الثراء المكتشف. التساؤل الذي بدأ يرن في أروقة دمشق كان واحداً: من أين تأتي كل هذه الأموال؟
تقول التقارير أن عمار ساعاتي—زوجها الثاني الذي تزوجته في 2016 ورئيس الاتحاد الوطني لطلبة سوريا وعضو مجلس الشعب—يملك منتجعاً فاخراً في مدينة سوتشي الروسية. لكن هذا لم يفسر الثراء بالكامل.
ثم ظهرت شائعات عن “تحويلات مالية من شخصيات ثرية معينة”. تحديداً، يُقال إن لونا تلقت 15 مليون دولار من رجل الأعمال حسام قاطرجي بذريعة أنها تتوسط لدى الأسد—لكن الأموال ذهبت “لحسابها الشخصي“. قاطرجي نفسه سيُقتل لاحقاً في ظروف غامضة، داخل المنطقة نفسها التي حدثت فيها “حادثة” لونا.
سؤال سليماني: “هل يعقل أن تترك 10 آلاف دولار؟”
هنا يأتي السؤال الذي طرحه قاسم سليماني—قائد “فيلق القدس” الإيراني—على علي مملوك ومسؤولي الأمن السوريين:
“هل يعقل أن تترك لونا الشبل 10 آلاف دولار من أجل 500 ألف ليرة سورية؟ إنها جاسوسة”
السؤال يحمل في طياته اتهاماً مباشراً: لماذا تترك امرأة راتباً ضخماً في قناة دولية محترمة (الجزيرة) لتعمل براتب زهيد في نظام ديكتاتوري؟ الجواب المنطقي، بحسب سليماني، كان واحداً فقط: ليس لأسباب مالية، بل لأسباب أمنية واستخباراتية.
كان سليماني يُشير إلى أن الاستقالة من الجزيرة لم تكن قراراً اقتصادياً عقلانياً، بل كانت عملية استقطاب أمنية مدروسة. جهة ما احتاجتها في دمشق—وكانت مستعدة لتحمل تكلفة اقتصادية لتعينها.
الإيرانيون في دمشق بدأوا يشكون في ولائها. تقول المصادر إنهم كانوا يراقبون تحركاتها بعناية، خاصة بعد سلسلة من الاغتيالات التي استهدفت شخصيات إيرانية ولبنانية مهمة في دمشق في السنوات السابقة. الاتهام كان واضحاً: لونا تسرب معلومات إلى إسرائيل عن وجود هذه الشخصيات، مما ساعد على تنفيذ الاغتيالات.
الاختفاء والاعتقال: اللعبة المظلمة
في أبريل 2024، بعد الضربة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق، اعتقل جهاز استخبارات الأسد شقيقها، العميد ملهم الشبل بتهمة “التخابر مع دولة أجنبية”.
تزامن الاعتقال مع منع زوجها عمار ساعاتي من السفر. لاحقاً، تم إقصاؤها من قائمة اللجنة المركزية لحزب البعث في مايو 2024. كانت هذه علامات واضحة على أن النظام بدأ يقلل من ثقته بها.youtube+1
ثم جاء الدور الإيراني. وفقاً لمصادر معارضة سورية، اعتقلها جهاز استخبارات فيلق القدس الإيراني في 20 مايو 2024 بتهمة “ترؤس شبكة تجسس لصالح إسرائيل”، واحتجزتها في مركز أمني للحرس الثوري في منطقة السيدة زينب بدمشق. خضعت للتحقيق تحت الإشراف العقيد حيدر غلام جلالي (الحاج جلالي)، أحد أشهر محققي الحرس الثوري الإيراني المعروفين بقسوتهم.
5 يوليو 2024: “حادثة السير” الغامضة
في الثاني من يوليو 2024، تعرضت لونا الشبل لحادثة سير على طريق الديماس (الطريق من دمشق إلى قرى الأسد بالجنوب). الرواية الرسمية قالت إن سيارتها اصطدمت وانحرفت عن الطريق مسببة نزيفاً حاداً في الدماغ.
نُقلت إلى مستشفى الشامي في دمشق، حيث أمضت ثلاثة أيام في العناية المركزة. في الخامس من يوليو 2024، أُعلن عن وفاتها.
لكن الجنازة كانت غريبة جداً—متواضعة، حضور رسمي محدود جداً، دفن بسيط في مقبرة الدحداح. لم تُشيّع بالطريقة التي تستحقها مستشارة الرئيس الخاصة. كانت الرسالة واضحة: النظام تبرأ منها.
الروايات المتضاربة: هل حقاً كانت “حادثة سير”؟
مصادر محلية وشهود عيان رووا قصة مختلفة تماماً. وفقاً لرواية “المجلة”، سيارة اقتربت من سيارة لونا وضربتها. قبل أن ينزل المرافق عمار ساعاتي، هجم عليها شخص مجهول وضربها في خلفية الرأس بقوة شديدة، مما أدى إلى “شلل كامل” ثم الوفاة.
لاحظ الشهود أن صورة السيارة (بي إم دبليو مصفحة) لم تظهر أضراراً كبيرة كما يتوقع من حادثة سير خطيرة جداً. التفاصيل لا تتطابق مع الرواية الرسمية.
مصادر معارضة سورية قالت أن لونا “قُتلت بعد تعذيب في سجون استخبارات فيلق القدس الإيراني”، وأن “الحادثة” كانت مجرد غطاء لتغطية جريمة.
رسالة الإقصاء: ماهر الأسد وقيود الثقة
في كل هذه الأحداث، كانت شخصية واحدة تقف بعناد ضد لونا: ماهر الأسد، قائد الفرقة الرابعة في الحرس الجمهوري وشقيق الرئيس الأقوى.
حتى بعد زواجها من عمار ساعاتي—الذي كان من “المحسوبين” على ماهر وقريب من دائرته—رفض ماهر السماح لها بدخول مجالسه. كان هناك حاجز نفسي وسياسي لا يُخترق بينهما.
تقول مصادر قريبة أن لونا كانت تجاهر أمام الجميع بكراهيتها لإيران وحزب الله، وهذا أثار اتهامات بأنها تعمل “جاسوسة لصالح إسرائيل” في أوساط النظام وحلفائه الإيرانيين.
الخاتمة: الراتب والموت
قصة لونا الشبل ليست مجرد قصة سياسية عن منافسة على السلطة. إنها قصة عن الثمن الحقيقي للعمالة والتعاون مع الأنظمة.
تركت 10 آلاف دولار للحصول على 500 ألف ليرة سورية. ولكن الحقيقة كانت أعمق بكثير من الأرقام. كانت تتحرك في عالم الظل والمخابرات عالم حيث الجميع يراقب الجميع، وحيث الثقة أضعف من الورق.
في نهاية الحال، سؤال سليماني لم يحتج إلى جواب. الراتب المهجور كان الجواب بحد ذاته دليل على أن لونا الشبل لم تكن اختارت الوطن. اختارت شيئاً آخر تماماً. وفي دمشق، من يختار شيئاً آخر غير الأسد ذاته، قد لا يعيش طويلاً ليشرح اختياره.
منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز



