يواجه بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأطول خدمة في تاريخ “إسرائيل”، تحديات وجودية تهدد بقاءه السياسي وحريته الشخصية، مما دفعه إلى تبني استراتيجية معقدة ومدمرة تجمع بين إطالة الحرب على غزة والسعي نحو احتلالها بالكامل.
هذا التقرير يحلل بعمق الدوافع الحقيقية وراء سياسات نتنياهو، وكيف تتقاطع أزماته الداخلية مع مشروع استيطاني توسعي يهدف إلى تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة نهائياً.
الأزمات الداخلية وتأثيرها على القرارات الاستراتيجية
قضايا الفساد كمحرك سياسي
تشكل قضايا الفساد الثلاث الرئيسية المعروفة بـ”1000، 2000، 4000″ نقطة الضعف الأساسية في موقف نتنياهو السياسي. تتضمن هذه القضايا اتهامات بتلقي رشاوى ومنافع شخصية من رجال أعمال أثرياء، والسعي للحصول على تغطية إعلامية إيجابية مقابل منح مزايا تنظيمية لشركات إعلامية. في القضية الأولى، تلقى نتنياهو وزوجته ما يقرب من 700 ألف شيكل في شكل هدايا ثمينة تشمل زجاجات شمبانيا فاخرة وسيجار، مقابل مساعدة المانحين في مصالحهم التجارية.
القضية الثانية تكشف محاولات نتنياهو التحكم في المحتوى الإعلامي لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، بينما تظهر القضية الرابعة والأخطر اتفاقاً مع رجل الأعمال شاؤول إلوفيتش للحصول على تغطية إيجابية مقابل منح شركته مزايا تنظيمية بقيمة 1.8 مليار شيكل.
هذه الاتهامات لم تؤثر فقط على سمعة نتنياهو، بل دفعته إلى البحث عن طرق لتعزيز موقعه السياسي وصرف الانتباه عن قضاياه القانونية من خلال إشعال الصراعات الخارجية.
تحدي النظام القضائي
في محاولة يائسة للهروب من المحاسبة القانونية، تبنى نتنياهو استراتيجية مواجهة مباشرة مع النظام القضائي الإسرائيلي. أوضح مثال على ذلك قراره المثير للجدل بتعيين الجنرال دافيد زيني رئيساً لجهاز الأمن العام “الشاباك” رغم معارضة المستشارة القانونية للحكومة وقرار المحكمة العليا. هذا التعيين، الذي وصفه منتقدوه بـ”الكسر العلني لسلطة القضاء”، يعكس استراتيجية أوسع لتقويض المؤسسات الديمقراطية الإسرائيلية وضمان الولاء الشخصي في المناصب الحساسة.
التحالفات مع اليمين المتطرف
الصهيونية الدينية كشريك استراتيجي
لا يمكن فهم استراتيجية نتنياهو دون تحليل تحالفاته مع أحزاب اليمين المتطرف، وخاصة تيار الصهيونية الدينية بقيادة بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير. هذا التحالف ليس مجرد ضرورة برلمانية، بل يمثل تقاطعاً أيديولوجياً عميقاً في الرؤى حول مستقبل الأراضي الفلسطينية.
سموتريتش، المستوطن الذي يعيش في مستوطنة كدوميم غير القانونية، ينكر وجود الشعب الفلسطيني ويدعو صراحة إلى ضم الضفة الغربية وإقامة مستوطنات في غزة.
من جهة أخرى، يمثل بن غفير الوجه الأكثر تطرفاً في هذا التحالف، حيث يدعو صراحة إلى “تشجيع الهجرة” القسرية للفلسطينيين ويرى أن “إسرائيل لليهود فقط”. هذا التحالف منح نتنياهو القوة البرلمانية اللازمة للبقاء في السلطة، لكنه في المقابل ألزمه بتبني أجندة متطرفة تتضمن توسيع المستوطنات ورفض أي تسوية سياسية مع الفلسطينيين.
تأثير الضغوط الداخلية على قرارات الحرب
يوضح تحليل القرارات العسكرية لنتنياهو خلال حرب غزة كيف تؤثر الضغوط السياسية الداخلية على الاستراتيجية العسكرية. رفض نتنياهو المتكرر لاتفاقات وقف إطلاق النار والإفراج عن الأسرى يعكس حاجته لإبقاء الحرب مستمرة كوسيلة لتعزيز موقعه السياسي. تقارير إسرائيلية كشفت أن نتنياهو أعرب لوزيريه المتطرفين سموتريتش وبن غفير عن نيته العودة للقتال بعد أي وقف لإطلاق النار، مما يؤكد أن استمرار الحرب يخدم في المقام الأول أهدافه السياسية الشخصية.
الاستراتيجية طويلة المدى: احتلال غزة وتهجير سكانها
من إدارة الصراع إلى الحل النهائي
تمثل خطط نتنياهو لاحتلال غزة تطوراً نوعياً في الاستراتيجية الإسرائيلية، من سياسة “إدارة الصراع” التي اتبعها لسنوات إلى ما يمكن وصفه بـ”الحل النهائي” للمسألة الفلسطينية. في أغسطس 2025، كشفت تقارير عن قرار نتنياهو “المضي نحو احتلال قطاع غزة” بعد مشاورات مع عدد محدود من الوزراء والمسؤولين العسكريين. هذا القرار لا يقتصر على احتلال عسكري مؤقت، بل يتضمن خططاً شاملة لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للقطاع.
الخرائط التي عرضها نتنياهو على الكونغرس الأمريكي تكشف عن استراتيجية متعددة المراحل تبدأ بالسيطرة على 40% من مساحة القطاع، وتتضمن إنشاء مناطق عازلة واسعة وممرات آمنة تقسم غزة إلى معازل منفصلة. هذه الخطة لا تهدف فقط للسيطرة العسكرية، بل لخلق واقع جديد يجعل عودة الفلسطينيين إلى مناطقهم الأصلية مستحيلة عملياً.
المدن الإنسانية: قناع للتطهير العرقي
تحت مسمى “المدينة الإنسانية”، تخطط إسرائيل لتجميع 600 ألف فلسطيني في منطقة محدودة قرب رفح، حيث سيخضعون لإجراءات فحص أمني صارمة ولن يُسمح لهم بمغادرتها. هذا المخطط، الذي وصفه منتقدون بـ”معسكر الاعتقال”، يهدف في حقيقته إلى تمهيد الطريق للترحيل القسري للفلسطينيين خارج أراضيهم.
تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب حول ضرورة نقل الفلسطينيين إلى مصر والأردن تتماشى مع هذه الخطة، وتوفر غطاءً دولياً لعملية تهجير جماعي قد تشمل كامل سكان القطاع. رغم الرفض المصري والأردني القاطع لهذه المقترحات، تستمر إسرائيل في تنفيذ خطواتها على الأرض لخلق ظروف تجبر الفلسطينيين على الرحيل “طوعياً”.
الدوافع الاقتصادية والاستراتيجية
السيطرة على الموارد
تتضمن خطط نتنياهو لغزة جوانب اقتصادية مهمة تتعلق بالسيطرة على الموارد الطبيعية والموقع الاستراتيجي للقطاع. الساحل الغزي، الذي يمتد لحوالي 40 كيلومتراً، يحتوي على احتياطيات غاز طبيعي مهمة ويوفر منافذ بحرية استراتيجية. إضافة لذلك، تسعى “إسرائيل” للسيطرة على ممر فيلادلفيا الحدودي مع مصر، مما يمنحها تحكماً كاملاً في حركة البضائع والأشخاص إلى القطاع.
المستوطنون الإسرائيليون، بقيادة شخصيات مثل دانييلا فايس التي تدير منظمة “ناتشالا” الاستيطانية، أعدوا بالفعل قوائم تضم 500 عائلة مستعدة للانتقال إلى غزة فور إخلائها من سكانها الفلسطينيين. هذا الاستعداد المسبق يكشف عن وجود خطة محكمة لاستيطان القطاع بالكامل وتحويله إلى جزء لا يتجزأ من “إسرائيل الكبرى”.
التحديات والمخاطر
المقاومة الداخلية والخارجية
رغم النجاحات التكتيكية لاستراتيجية نتنياهو في البقاء السياسي، تواجه خططه تحديات جدية على عدة مستويات. داخلياً، تتزايد المعارضة من قبل عائلات الأسرى الإسرائيليين وقطاعات واسعة من الرأي العام التي تطالب بوقف الحرب وإبرام صفقة لاستعادة المحتجزين. عسكرياً، تشير تقارير إلى “تآكل قوة الجيش الإسرائيلي” بسبب طول فترة العمليات العسكرية في غزة، مما دفع حتى رئيس الأركان إيال زامير للتعبير عن قلقه من الوضع على الأرض.
على المستوى الدولي، تواجه خطط نتنياهو معارضة متزايدة حتى من الحلفاء التقليديين. قرار ألمانيا تعليق صادرات الأسلحة إلى “إسرائيل” وتحذيرات دول أوروبية أخرى من مخاطر التطهير العرقي يشير إلى تآكل الدعم الدولي للسياسات الإسرائيلية المتطرفة. منظمة العفو الدولية ومؤسسات حقوقية أخرى وصفت خطط الضم والتهجير بأنها “جرائم حرب” و”انتهاك صارخ للقانون الدولي”.
المأزق الاستراتيجي
يقود نتنياهو “إسرائيل” نحو مأزق استراتيجي خطير. فمن جهة، نجح في تعزيز موقعه السياسي قصير المدى من خلال تحالفاته مع اليمين المتطرف واستغلال حالة الحرب لتأجيل محاسبته القانونية. من جهة أخرى، تهدد سياساته بعزل “إسرائيل” دولياً وتقويض أسس شرعيتها كدولة ديمقراطية. التقارير الإسرائيلية نفسها تحذر من أن خطط احتلال غزة قد تكون “أقرب إلى الانتحار السياسي والعسكري”، خاصة في ظل استحالة السيطرة الكاملة على مقاومة منظمة وعميقة الجذور.
النتائج والتوقعات
سيناريوهات محتملة
تشير المؤشرات الحالية إلى أن نتنياهو سيستمر في تنفيذ استراتيجيته المدمرة، مدفوعاً بحاجة وجودية للبقاء في السلطة وتجنب السجن. السيناريو الأكثر احتمالاً يتضمن محاولة السيطرة التدريجية على غزة من خلال إنشاء مناطق “آمنة” ومناطق عازلة، مع تصعيد الضغوط على السكان المدنيين لإجبارهم على الرحيل. هذا السيناريو سيؤدي حتماً إلى مقاومة فلسطينية أشرس وتدهور أكبر في العلاقات الدولية.
السيناريو البديل يتضمن انهيار خطط نتنياهو تحت ضغط التكلفة العسكرية والسياسية الباهظة، خاصة إذا نجحت المعارضة الإسرائيلية في تشكيل تحالف عريض لإسقاط حكومته. هذا السيناريو قد يؤدي إلى تغيير في القيادة الإسرائيلية، لكن الأضرار التي لحقت بالمنطقة والقانون الدولي ستبقى آثارها لعقود.
الأثر على المنطقة
تتجاوز تداعيات استراتيجية نتنياهو حدود فلسطين لتؤثر على استقرار المنطقة بأكملها. خطط التهجير القسري والضم ستؤدي حتماً إلى موجات لجوء جديدة تضغط على الدول المجاورة، وتفاقم التوترات الإقليمية. المواقف السعودية والمصرية والأردنية الرافضة لخطط التهجير تشير إلى احتمالية تصعيد دبلوماسي قد يصل لقطع العلاقات أو تعليق الاتفاقيات القائمة.
على المدى الطويل، قد تؤدي هذه السياسات إلى إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، حيث تتجه دول عربية نحو تقوية علاقاتها مع محور المقاومة كرد فعل على السياسات الإسرائيلية المتطرفة. هذا التطور سيعمق الانقسامات في المنطقة ويجعل احتمالات السلام أكثر بعداً.
تكشف دراسة معمقة لاستراتيجية نتنياهو أنها تمثل في جوهرها مشروع بقاء سياسي شخصي يتخفى وراء شعارات أمنية وقومية. الدوافع الحقيقية وراء إطالة الحرب على غزة والسعي نحو احتلالها بالكامل تتجذر في أزمات نتنياهو القانونية والسياسية، وليس في اعتبارات أمنية حقيقية. هذا التحليل يؤكده تزامن تصعيد الحرب مع تفاقم قضايا الفساد، واعتماد نتنياهو المتزايد على اليمين المتطرف للبقاء في السلطة.
الاستراتيجية التي يتبعها نتنياهو تمثل تحولاً جذرياً في الفكر الصهيوني، من مشروع استعماري تقليدي يسعى للسيطرة مع الحفاظ على واجهة “ديمقراطية”، إلى مشروع فاشي صريح يستهدف التطهير العرقي الكامل للفلسطينيين. هذا التحول لا يعكس فقط طموحات اليمين المتطرف الإسرائيلي، بل يكشف أيضاً عن طبيعة النظام الصهيوني الحقيقية عندما تسنح له الظروف لإزالة الأقنعة.
في النهاية، تؤدي نوايا نتنياهو الحقيقية نحو احتلال غزة وتهجير سكانها إلى تجريد الصهيونية من أي ادعاءات أخلاقية أو قانونية، وتضعها في مواجهة مباشرة مع القانون الدولي والضمير الإنساني. هذا المسار المدمر، الذي يخدم في المقام الأول مصالح شخص واحد يسعى للهروب من العدالة، قد يؤدي في النهاية إلى انهيار المشروع الصهيوني برمته تحت وطأة تناقضاته الداخلية ومعارضة العالم المتنامية.
منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز