spot_img

ذات صلة

جمع

تحقيق استقصائي: مؤسسة غزة الإنسانية – آلة القتل المُقنعة بقناع المساعدات

يكشف هذا التحقيق الاستقصائي المعمق عن الحقيقة المروعة وراء...

ريتشارد هيوز.. مهندس ميركاتو ليفربول التاريخي

عندما ترى ريتشارد هيوز يصافح المدرب الهولندي آرني سلوت...

متى نصر الله؟ سؤال جوهري في ضوء الأحداث والمجريات الحاصلة في غزة وسوريا

يُطرح في الأوساط الفكرية المعاصرة تساؤل عميق حول علاقة...

الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة: سوريا في مواجهة أعلى الرسوم عالمياً

تشهد السياسة الأميركية تجاه سوريا تناقضاً صارخاً يثير تساؤلات...

الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة: سوريا في مواجهة أعلى الرسوم عالمياً

تشهد السياسة الأميركية تجاه سوريا تناقضاً صارخاً يثير تساؤلات جوهرية حول الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. ففي الوقت الذي أعلن فيه الرئيس دونالد ترامب رفع العقوبات عن سوريا في مايو 2025، فرضت إدارته في أغسطس من العام نفسه أعلى رسوم جمركية في العالم على الواردات السورية بنسبة 41%. هذا التناقض يكشف عن عمق الارتباك في التعامل الأميركية مع سوريا الجديدة، ويضع الاقتصاد السوري أمام تحديات جديدة في رحلة التعافي من آثار أكثر من عقد من الحرب والعقوبات.

الموقع الاستثنائي لسوريا في قائمة الرسوم الجمركية

سوريا في المقدمة بفارق كبير

تتصدر سوريا قائمة الدول التي تواجه أعلى رسوم جمركية أمريكية بنسبة 41%، متفوقة حتى على دول مثل لاوس وميانمار التي تواجه رسوماً بنسبة 40%. هذا التصدر مثير للدهشة خاصة أن سوريا تشهد تحسناً ملحوظاً في علاقاتها مع الولايات المتحدة منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024.

لا يمكن تفسير هذه النسبة الاستثنائية بالمنطق الاقتصادي التقليدي. فحجم التبادل التجاري بين البلدين ضئيل للغاية، حيث بلغ 12.7 مليون دولار فقط في عام 2024، مقارنة بـ932.6 مليون دولار في عام 2010 قبل اندلاع الحرب. هذا الرقم المتواضع يجعل سوريا من أصغر الشركاء التجاريين لأمريكا، مما يثير تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء فرض هذه الرسوم المرتفعة.

مقارنة إقليمية ودولية

عند المقارنة مع الدول العربية الأخرى، نجد أن العراق يواجه رسوماً بنسبة 35%، والجزائر وليبيا 30%، وتونس 25%، والأردن 15%. هذا التصنيف يضع سوريا في موضع فريد، حيث تواجه أعلى رسوم في المنطقة العربية رغم الحديث عن تحسن العلاقات السياسية.

الأمر الأكثر إثارة للجدل هو أن دولاً مثل سويسرا، إحدى أغنى دول العالم، لم تسلم من هذه الرسوم وواجهت نسبة 39%. هذا يشير إلى أن السياسة التجارية الأميركية الجديدة لا تتبع المعايير التقليدية في التعامل مع الحلفاء والخصوم.

التناقض الجوهري: من رفع العقوبات إلى الحصار التجاري

مسار متضارب في السياسة الأميركية

يكشف تحليل الخط الزمني للسياسة الأميركية تجاه سوريا عن تضارب واضح في الأهداف والوسائل. بدأت القصة مع تطبيق قانون قيصر في يونيو 2020، الذي فرض أقسى العقوبات الاقتصادية على سوريا. لكن سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 غيّر المعادلة جذرياً، حيث بدأت إدارة بايدن في يناير 2025 بتقديم إعفاءات محدودة في قطاع الطاقة.

الخطوة الكبرى جاءت في مايو 2025 عندما أعلن ترامب من الرياض رفع جميع العقوبات عن سوريا. تم تنفيذ هذا القرار رسمياً في يونيو 2025، حيث أزالت وزارة الخزانة الأمريكية 518 فرداً وكياناً من قوائم العقوبات. لكن المفاجأة الكبرى جاءت في أغسطس 2025 مع فرض رسوم جمركية بنسبة 41% على سوريا.

التبرير الاقتصادي المختل

يحاول المدافعون عن السياسة الأميركية تبرير هذه الرسوم بوجود فائض تجاري لصالح سوريا، حيث تصدر إلى أمريكا حوالي 10.7 مليون دولار مقابل استيراد 2 مليون دولار فقط. لكن هذا التبرير يبدو واهياً عند مقارنته بحجم التجارة الإجمالي الضئيل، والذي لا يتجاوز 13 مليون دولار سنوياً.

علاوة على ذلك، ما تصدره سوريا لأمريكا ليس منتجات استراتيجية أو تقنية متقدمة، بل منتجات بسيطة مثل التوابل والمكسرات والملابس القطنية والسلع الحرفية. هذه المنتجات لا تشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي أو الصناعات الأميركية، مما يجعل فرض رسوم بهذا المستوى أمراً غير مبرر اقتصادياً.

قانون قيصر: من أداة الضغط إلى العقبة أمام التعافي

تاريخ وأهداف قانون قيصر

سُمي قانون قيصر نسبة إلى ضابط سوري منشق سرّب 55 ألف صورة لمعتقلين في سجون النظام السوري. دخل القانون حيز التنفيذ في يونيو 2020 بهدف معاقبة نظام الأسد على جرائمه ضد الشعب السوري، وفرض عقوبات ثانوية على أي جهة تتعامل مع النظام في مجال إعادة الإعمار.

شمل القانون عقوبات واسعة على الأفراد والشركات والحكومات التي تقدم دعماً مالياً أو مادياً للنظام السوري، بما في ذلك روسيا وإيران. كما حظر التعامل في قطاعات النفط والغاز وإعادة الإعمار دون تسوية سياسية تحت إشراف الأمم المتحدة.

التأثير الاقتصادي والإنساني المدمر

أدت العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر إلى انهيار شبه كامل للاقتصاد السوري. فقد الاقتصاد السوري أكثر من 800 مليار دولار خلال 14 عاماً من الحرب والعقوبات. وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إذا استمر معدل النمو الحالي، فلن يعود الاقتصاد السوري إلى مستويات ما قبل الصراع حتى عام 2080.

العقوبات لم تؤثر فقط على النظام السابق، بل ألحقت ضرراً بالغاً بالشعب السوري. يعيش أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر، ويحتاج 16.5 مليون سوري إلى مساعدات إنسانية لتلبية احتياجاتهم الأساسية. حتى مع وجود إعفاءات إنسانية، عرقلت العقوبات وصول المساعدات والأدوية الضرورية للشعب السوري.

الدول المتضررة من الرسوم الجمركية: تحليل مقارن

لاوس وميانمار: حالات مشابهة بدوافع مختلفة

تشارك لاوس وميانمار سوريا في تحمل رسوم جمركية عالية بنسبة 40% لكل منهما. في حالة ميانمار، يمكن فهم هذه الرسوم في ضوء الانقلاب العسكري عام 2021 والعقوبات المستمرة ضد المجلس العسكري. التبادل التجاري بين ميانمار وأمريكا بلغ 953 مليون دولار في 2024، وهو أكبر بكثير من التجارة مع سوريا.

أما لاوس، فتواجه هذه الرسوم بسبب تعميق علاقاتها مع الصين والديون المتراكمة من مشاريع البنية التحتية الصينية. التبادل التجاري مع أمريكا بلغ 803.3 مليون دولار، مما يجعل الرسوم أكثر تأثيراً من الناحية الاقتصادية مقارنة بسوريا.

الحالة الاستثنائية لسويسرا

تمثل سويسرا حالة استثنائية في قائمة الدول المتأثرة، حيث تواجه رسوماً بنسبة 39% رغم كونها دولة غنية وحليفة تقليدية للغرب. هذا القرار أثار دهشة واسعة في الأوساط الدبلوماسية والاقتصادية، خاصة أن التبادل التجاري بين البلدين يبلغ 8.5 مليار دولار سنوياً.

الحكومة السويسرية عبرت عن “أسفها البالغ” للقرار الأميركي، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة تعتبر أكبر سوق للصادرات السويسرية، خاصة الشوكولاته والساعات الفاخرة. انخفضت أسهم شركات الساعات السويسرية بنسبة 8.5% في أعقاب الإعلان.

تأثير الرسوم الجمركية على إعادة الإعمار السوري

تحديات إضافية أمام الاقتصاد المتعافي

يواجه الاقتصاد السوري تحديات هائلة في رحلة التعافي من آثار أكثر من عقد من الحرب. تقدر تكلفة إعادة الإعمار بين 250 و400 مليار دولار. في هذا السياق، تشكل الرسوم الجمركية الأميركية عبئاً إضافياً على الاقتصاد الهش.

الرسوم تؤثر بشكل غير مباشر على إعادة الإعمار من خلال زيادة تكلفة المواد المستوردة وتقليل القدرة التنافسية للصادرات السورية. هذا يحد من قدرة سوريا على جذب الاستثمارات الأجنبية وتحقيق النمو الاقتصادي المطلوب لإعادة البناء.

الحاجة إلى الاستثمار الدولي

أكدت الدراسات أن سوريا تحتاج إلى استثمارات دولية ضخمة لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة. رفع العقوبات كان خطوة إيجابية في هذا الاتجاه، حيث مكّن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من استئناف عملياتهما في سوريا بعد انقطاع دام 14 عاماً.

لكن الرسوم الجمركية تقوض هذه الجهود جزئياً، حيث ترسل إشارات متضاربة للمستثمرين الدوليين حول جدية الالتزام الأميركي بدعم إعادة الإعمار السوري. هذا التناقض يخلق حالة من عدم اليقين تضر بالثقة في الاستثمار طويل المدى.

التفسيرات المحتملة للتناقض الأميركي

العصا والجزرة: استراتيجية الضغط المتدرج

يرى بعض المحللين أن الرسوم الجمركية جزء من استراتيجية “العصا والجزرة” التي تتبعها إدارة ترامب. من هذا المنظور، رفع العقوبات كان “الجزرة” لتشجيع الحكومة السورية الجديدة على التعاون، بينما الرسوم الجمركية تمثل “العصا” للحفاظ على النفوذ والضغط.

هذا التفسير يتماشى مع أسلوب ترامب في استخدام الأدوات الاقتصادية كوسائل ضغط سياسي، كما حدث مع دول أخرى مثل كندا والمكسيك والصين. الهدف قد يكون الحصول على تنازلات إضافية من الحكومة السورية في قضايا مثل مكافحة الإرهاب أو العلاقات مع إيران.

التناقض في صنع القرار

تفسير آخر يشير إلى وجود تناقض في عملية صنع القرار داخل الإدارة الأميركية. قد تكون قرارات رفع العقوبات والرسوم الجمركية صدرت عن أجهزة مختلفة دون تنسيق كافٍ، مما أدى إلى هذا التضارب الواضح في السياسة.

هذا التفسير يعكس التحديات الإدارية والبيروقراطية في الحكومة الأميركية، خاصة في التعامل مع ملفات معقدة مثل الوضع السوري. عدم وضوح الرؤية الاستراتيجية قد يكون السبب وراء هذه القرارات المتناقضة.

رسائل للحلفاء والخصوم

قد تحمل الرسوم الجمركية رسائل سياسية لأطراف إقليمية ودولية أخرى. فرض أعلى رسوم في العالم على سوريا قد يكون رسالة لإيران وروسيا بأن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بأوراق ضغط اقتصادية، حتى لو تحسنت العلاقات السياسية.

كما قد تكون هناك رسالة لحلفاء أمريكا في المنطقة، مثل إسرائيل والسعودية، بأن الانفتاح على سوريا لن يكون على حساب مصالحهم. هذا البعد الجيوسياسي يعكس تعقيدات الوضع الإقليمي وصعوبة التوازن بين المصالح المختلفة.

الآثار الاقتصادية على الشعب السوري

تأثير محدود مباشر، آثار كبيرة غير مباشرة

رغم ضآلة حجم التجارة المباشرة بين سوريا وأمريكا، فإن الرسوم الجمركية تحمل آثاراً غير مباشرة كبيرة على الاقتصاد السوري. الأثر الأكبر يتمثل في الرسالة السلبية التي ترسلها للمستثمرين الدوليين والشركات متعددة الجنسيات التي تفكر في دخول السوق السوري.

الرسوم تزيد من تكلفة المنتجات السورية في السوق الأميركي، مما يقلل قدرتها التنافسية ويحد من فرص نمو الصادرات. هذا مهم بشكل خاص للصناعات الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد على التصدير للحصول على العملة الصعبة.

تأثير على قطاعات حيوية

تؤثر الرسوم بشكل خاص على القطاعات التي تعتمد على التصدير، مثل المنسوجات والمنتجات الزراعية والحرف التقليدية. هذه القطاعات مهمة لتوفير فرص العمل وتحريك عجلة الاقتصاد في المناطق الريفية والمدن الصغيرة.

علاوة على ذلك، قد تؤثر الرسوم على استيراد المعدات والتقنيات الأميركية اللازمة لإعادة بناء الصناعات السورية. هذا يحد من قدرة سوريا على الاستفادة من التقنيات المتقدمة في عملية إعادة الإعمار والتحديث الاقتصادي.

مقارنة مع التجارب الإقليمية

تجربة العراق: دروس مستفادة

تقدم تجربة العراق مع الرسوم الجمركية الأميركية بنسبة 35% مثالاً مفيداً للمقارنة. العراق، مثل سوريا، يمر بمرحلة إعادة بناء بعد سنوات من الصراع وعدم الاستقرار. لكن العراق يحتفظ بعلاقات اقتصادية أقوى مع الولايات المتحدة بسبب قطاع النفط والغاز.

الحجم الأكبر للتبادل التجاري العراقي-الأميركي، الذي يبلغ 2.1 مليار دولار سنوياً، يجعل تأثير الرسوم الجمركية أكثر وضوحاً مقارنة بالحالة السورية. لكن العراق يستفيد من وجود لوبي سياسي واقتصادي أقوى في واشنطن، مما يخفف من حدة الضغوط الاقتصادية.

نموذج الأردن: الاستثناء النسبي

الأردن، الذي يواجه رسوماً أقل بنسبة 15%، يستفيد من موقعه الاستراتيجي كحليف مهم للولايات المتحدة في المنطقة. هذا يظهر كيف يمكن للاعتبارات السياسية والأمنية أن تؤثر على السياسات التجارية.

التجربة الأردنية تشير إلى أن التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب يمكن أن يؤثر إيجابياً على العلاقات التجارية. هذا درس مهم للحكومة السورية الجديدة في تعاملها مع الولايات المتحدة.

التطلعات المستقبلية والحلول المحتملة

إمكانية تعديل السياسة

تاريخ إدارة ترامب يظهر أن الرسوم الجمركية قابلة للتعديل بناء على المفاوضات والضغوط السياسية. دول مثل كندا والبرازيل نجحت في تخفيض أو إلغاء الرسوم من خلال التفاوض المباشر مع الإدارة الأميركية.

هذا يفتح باباً أمام الدبلوماسية السورية للعمل على تخفيض هذه الرسوم من خلال تقديم ضمانات في مجالات أخرى، مثل مكافحة الإرهاب أو التعاون الأمني. الدعم من دول حليفة لأمريكا، مثل السعودية وتركيا، يمكن أن يساعد في هذا الاتجاه.

الحاجة إلى استراتيجية متوازنة

تحتاج سوريا إلى استراتيجية اقتصادية متوازنة لا تعتمد فقط على السوق الأميركي. تنويع الشركاء التجاريين وتطوير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا يمكن أن يقلل من تأثير الرسوم الأميركية.

في الوقت نفسه، تطوير الصناعات المحلية وتعزيز الإنتاج الداخلي يمكن أن يقلل الاعتماد على الاستيراد ويحسن الميزان التجاري. هذا يتطلب استثمارات في التعليم والتدريب التقني وتطوير البنية التحتية.

تناقض يعكس تعقيدات الجيوسياسة

يعكس التناقض بين رفع العقوبات وفرض أعلى رسوم جمركية في العالم على سوريا تعقيدات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. هذا التناقض ليس مجرد خطأ إداري، بل يعكس صراعاً أعمق بين المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية المختلفة داخل الإدارة الأميركية وبين مختلف أجهزة الحكومة.

بالنسبة لسوريا، هذا التناقض يشكل تحدياً إضافياً في رحلة التعافي الاقتصادي. لكنه أيضاً يفتح فرصاً للدبلوماسية والمفاوضات لتحسين العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة. النجاح في هذا المسعى يتطلب استراتيجية شاملة تجمع بين الدبلوماسية الاقتصادية والتعاون الأمني وبناء الثقة مع جميع الأطراف المعنية.

في النهاية، مستقبل العلاقات الاقتصادية السورية-الأميركية سيعتمد على قدرة الطرفين على تجاوز هذه التناقضات والوصول إلى فهم مشترك يخدم مصالح الشعبين. الطريق قد يكون طويلاً ومعقداً، لكن الخطوات الأولى نحو إعادة بناء الثقة والتعاون الاقتصادي بدأت بالفعل، رغم العقبات والتحديات الحالية.

فريق التحرير

منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز

spot_imgspot_img