استيقظ السودانيون هذه الأيام على واقع جديد ومثير للجدل – لم تعد بلادهم تُحكم من عاصمة واحدة، بل من اثنتين. في الشرق، تواصل بورتسودان عملها كعاصمة مؤقتة للحكومة الرسمية التي يقودها الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وفي الغرب، أعلنت مدينة نيالا ميلاد حكومة جديدة أطلق عليها “حكومة تأسيس السلام” تحت قيادة قوات الدعم السريع ومحمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”.
هذا التطور المأساوي ليس مجرد حدث سياسي عابر، بل نقطة تحول تاريخية قد تعيد تشكيل خريطة المنطقة وتضع السودان أمام احتمالات مصيرية لا رجعة فيها. فكيف وصلت هذه البلاد العريقة إلى هذه النقطة الحرجة؟ وما هي القوى التي تقف خلف هذا الانقسام المدمر؟
جذور الأزمة: عندما تحولت الشراكة إلى عداوة
بداية التشقق في التحالف العسكري
لفهم الأزمة الراهنة، علينا العودة إلى الوراء قليلاً، تحديداً إلى عام 2019 عندما أطاحت ثورة شعبية عارمة بنظام عمر البشير الذي حكم البلاد لثلاثة عقود. في تلك اللحظة التاريخية، بدا وكأن الجيش السوداني وقوات الدعم السريع يقفان جنباً إلى جنب في وجه النظام المستبد، لكن هذا التحالف كان هشاً منذ البداية.
عبد الفتاح البرهان، الجنرال الذي نشأ في أسرة دينية بولاية نهر النيل وتدرج في المناصب العسكرية بهدوء وانضباط، لم يكن يتوقع أن يصبح يوماً ما الرجل الأقوى في السودان. على الجانب الآخر، محمد حمدان دقلو “حميدتي”، الرجل الذي بدأ حياته تاجر إبل في دارفور وبنى إمبراطورية عسكرية واقتصادية ضخمة، كان يحلم بالسلطة منذ سنوات طويلة.
انقلاب أكتوبر 2021: النهاية المؤجلة للشراكة
عندما نفذ البرهان وحميدتي انقلاباً عسكرياً مشتركاً في 25 أكتوبر 2021، ضد الحكومة المدنية الانتقالية، بدا وكأنهما يعملان بتناغم تام. لكن تحت السطح، كانت التوترات تتصاعد حول مسألتين جوهريتين: أولاهما الجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع في الجيش النظامي، والثانية هي تسلسل القيادة والإشراف المدني على القوات العسكرية.
هذه الخلافات لم تكن مجرد مسائل تقنية، بل كانت تعكس صراعاً عميقاً على المصالح التجارية والاقتصادية المترامية الأطراف. كل من الجيش وقوات الدعم السريع كان يسيطر على شبكة معقدة من الشركات والمشاريع الاقتصادية، من مناجم الذهب في دارفور إلى المشاريع الزراعية في وادي النيل.
15 أبريل 2023: يوم انفجار البركان
في فجر ذلك اليوم المشؤوم، شنت قوات الدعم السريع هجمات خاطفة على مواقع حكومية رئيسية في العاصمة الخرطوم، بما في ذلك القصر الرئاسي ومطار الخرطوم الدولي وتلفزيون السودان. لم تكن هذه مجرد اشتباكات عشوائية، بل خطة محكمة لتغيير ميزان القوى في البلاد.
الساعات الأولى من القتال كانت مرعبة. صوت الانفجارات يهز نوافذ المنازل في الخرطوم، وطائرات الجيش تحلق في سماء العاصمة لأول مرة منذ عقود، ومئات الآلاف من المدنيين يحتمون في منازلهم غير مصدقين ما يحدث.
تصاعد الحرب وتدويل الصراع
مع استمرار القتال، بدأت التقاطعات الدولية تظهر بوضوح. الإمارات العربية المتحدة، التي لها مصالح اقتصادية واسعة مع حميدتي، اتُهمت مراراً بدعم قوات الدعم السريع بالأسلحة والإمدادات عبر كينيا. على الجانب الآخر، مصر وإيران أظهرتا دعماً للجيش السوداني، مما حول الصراع المحلي إلى حرب بالوكالة إقليمية.
كان لهذا التدخل الخارجي تأثير مدمر على مسار الحرب. بدلاً من أن تكون معركة محدودة تُحسم في أيام، امتدت لتصبح حرباً استنزاف طاحنة قسمت البلاد إلى مناطق نفوذ متصارعة.
الانقسام الجغرافي: خريطة السودان الجديدة
بورتسودان: العاصمة المؤقتة التي تحولت إلى دائمة
عندما اضطر البرهان للخروج من مقر القيادة العامة في الخرطوم في أغسطس 2023، لم يكن أمامه خيار سوى التوجه إلى بورتسودان، المدينة الساحلية التي أصبحت بين ليلة وضحاها مقر الحكومة السودانية.
بورتسودان، التي أنشأها الاستعمار البريطاني عام 1905 كميناء للتصدير، وجدت نفسها فجأة تستضيف أكثر من مليون نازح من مختلف أنحاء السودان، بالإضافة إلى المؤسسات الحكومية والبعثات الدبلوماسية. هذا التحول المفاجئ أثقل كاهل المدينة بمشاكل لا تحصى، من نقص مياه الشرب إلى انهيار شبكة المواصلات.
نيالا: مهد الحكومة الموازية
في المقابل، اختارت قوات الدعم السريع مدينة نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، لتكون مقراً لحكومتها الموازية. هذا الاختيار لم يكن عشوائياً، فنيالا تقع في قلب المنطقة التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، والتي تشمل معظم إقليم دارفور وأجزاء كبيرة من كردفان.
تشكيل “حكومة تأسيس السلام” في نيالا كان حدثاً مسرحياً بكل معنى الكلمة. محمد حمدان دقلو كرئيس للمجلس الرئاسي، عبد العزيز الحلو كنائب له، ومحمد حسن التعايشي كرئيس للوزراء – كلهم شخصيات لها تاريخ طويل في معارضة الحكومة المركزية في الخرطوم.
الأسباب العميقة للانقسام: أكثر من مجرد صراع سلطة
قانون “الوجوه الغريبة”: التمييز المؤسسي
أحد أخطر العوامل التي أججت الانقسام هو ما يُسمى بقانون “الوجوه الغريبة”، الذي استهدف إثنيات دارفورية في مناطق سيطرة الجيش. هذا القانون، الذي يبدو تقنياً في ظاهره، كان في الواقع أداة تمييز عنصري ممنهج ضد سكان الغرب السوداني.
الأستاذ الجامعي خالد كودي يصف هذه الممارسات بأنها “تنسف مبدأ المواطنة المتساوية وتُعمّق الشرخ الإثني-الجهوي”، مضيفاً أنها “تفجيرات جديدة لمرض قديم، هو بنية الدولة المركزية الإثنوقراطية التي راكمت تمييزاً تاريخياً”.
حرمان المواطنين من الأوراق الثبوتية
بالتزامن مع قانون الوجوه الغريبة، حُرم الكثيرون من سكان دارفور وكردفان من حق استخراج الأوراق الثبوتية الأساسية مثل جوازات السفر والهويات الشخصية. هذا الحرمان لم يكن مجرد عقبة بيروقراطية، بل كان يهدف إلى إلغاء الوجود القانوني لشرائح واسعة من المواطنين السودانيين.
الامتحانات القومية وتغيير العملة: سلاح الإقصاء الاقتصادي
في خطوة أثارت غضباً واسعاً، قررت حكومة بورتسودان إجراء الامتحانات القومية وتغيير العملة في مناطق الشمال والوسط والشرق فقط، مستبعدة بذلك ملايين الطلاب وآلاف التجار في غرب السودان. هذه القرارات، التي اتُخذت قبل التوصل إلى وقف لإطلاق النار، أرسلت رسالة واضحة: الدولة لا تعتبر سكان الغرب جزءاً منها.
خطاب الكراهية: الوقود الذي يغذي الانقسام
القصف الجوي والأسلحة المحرمة
تقارير موثقة تتحدث عن قيام طيران الجيش بقصف مناطق مدنية في دارفور، مما أدى إلى مقتل آلاف المدنيين. هناك أيضاً مزاعم باستخدام أسلحة محرمة دولياً، وهو ما نفاه الجيش لكن التقارير الميدانية تشير إلى عكس ذلك.
هذه الهجمات، سواء كانت مقصودة أم لا، خلقت مشاعر انتقام عميقة في نفوس سكان دارفور، الذين باتوا ينظرون إلى الجيش السوداني ليس كحامٍ لهم، بل كقوة احتلال تستهدف وجودهم.
الإعلام والتحريض
وسائل الإعلام المؤيدة لكل طرف لعبت دوراً مدمراً في تأجيج خطاب الكراهية. القنوات المؤيدة للجيش صورت سكان دارفور كخونة وعملاء، بينما الإعلام المؤيد لقوات الدعم السريع وصف حكومة بورتسودان بالعنصرية والإقصائية.
ردود الفعل الدولية: بين الإدانة والترقب
موقف الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي
أدانت جامعة الدول العربية تشكيل حكومة تأسيس بشدة، معتبرة إياها “انتهاكاً صارخاً لإرادة الشعب ومحاولة لفرض أمر واقع بالسلاح”. الجامعة حذرت من أن هذه الخطوة “تهدد بتحويل البلاد إلى كانتونات متناحرة.
من جانبه، عقد مجلس السلم والأمن الأفريقي جلسة طارئة برئاسة الجزائر لمناقشة التطورات في السودان، وأدان بشدة إعلان الحكومة الموازية وحذر الدول الأفريقية من التعامل معها.
الموقف الأمريكي والأوروبي
الولايات المتحدة وأوروبا تتعاملان مع الوضع بحذر شديد. هناك اتصالات مكثفة مع مسؤولين في الاتحاد الأفريقي، لكن لا يبدو أن هناك استعداداً للاعتراف بأي من الحكومتين كحكومة شرعية وحيدة للسودان.
المحلل الدبلوماسي عمر عبد الرحمن يشير إلى أن “التقاطعات الدولية قادرة على إفشال كل شيء”، مؤكداً أن الحلول السياسية تحتاج إلى “تفاهمات سرية بين الأطراف المتقاتلة”.
شبح انفصال الجنوب: التاريخ يعيد نفسه؟
الجغرافيا تتحدث
الأرقام مرعبة بكل المقاييس. قوات الدعم السريع تسيطر حالياً على كامل إقليم دارفور (باستثناء مدينة الفاشر المحاصرة) وأجزاء كبيرة من إقليم كردفان. هذه المناطق تشكل أكثر من 45% من مساحة السودان الحالية، أي نحو 870 ألف كيلومتر مربع من أصل 1.8 مليون.
هذا الواقع الجغرافي يذكّر بقوة بالأيام التي سبقت انفصال جنوب السودان عام 2011، عندما كانت حكومة الخرطوم تسيطر على الشمال بينما كانت الحركة الشعبية تحكم الجنوب.
الدروس المستفادة من التجربة الجنوبية
انفصال الجنوب جاء بعد حرب أهلية استمرت أكثر من نصف قرن، وكلف السودان ثلث مساحته ومعظم موارده النفطية. الخبراء يحذرون الآن من أن السودان قد يواجه تقسيماً أكثر تعقيداً، ليس إلى دولتين فحسب، بل إلى “خمس أو ست دويلات” كما يتوقع المحلل السياسي وائل محجوب18.
مستقبل مجهول: سيناريوهات محتملة
السيناريو الأول: التسوية التاريخية الشاملة
الوزير السابق مهدي داود الخليفة يرى أن المخرج الوحيد يكمن في “وقف عاجل لإطلاق النار لأغراض إنسانية، يفتح الطريق أمام حوار وطني شامل لإقامة دولة مدنية تقوم على احترام المواطنة والعدالة”.
هذا السيناريو، رغم مثاليته، يبدو بعيد المنال في ظل استمرار القتال وتصاعد خطاب الكراهية من كلا الجانبين.
السيناريو الثاني: تفكك الدولة السودانية
السيناريو الأكثر إثارة للقلق هو انهيار كامل للدولة السودانية وتقسيمها إلى كيانات متصارعة. هذا السيناريو ليس مجرد تخمين، بل احتمال حقيقي تدعمه الوقائع على الأرض.
الصحفي فايز السليك يعبر عن هذا القلق بقوله إن تشكيل حكومة ثانية هو “بداية لمشروع انقسام إضافي”، محذراً من أن السودان قد يدخل في “ماراثون البحث عن الشرعية” بلا نهاية.
السيناريو الثالث: التعايش القسري
سيناريو ثالث يتمثل في قبول الوضع الراهن كأمر واقع، مع تعامل المجتمع الدولي مع حكومتي بورتسودان ونيالا دون منح أي منهما اعترافاً رسمياً كاملاً. هذا السيناريو قد يؤدي إلى حالة من التجميد السياسي تستمر لسنوات طويلة.
وطن على حافة الهاوية
قصة السودان اليوم هي قصة وطن يقف على حافة الهاوية. من الخرطوم التي تحولت إلى ساحة معركة، إلى بورتسودان التي تكافح لتكون عاصمة، وصولاً إلى نيالا التي تحلم بحكومة بديلة – كل هذه المدن تحكي فصولاً مؤلمة من قصة انهيار الدولة.
الانقسام الحالي ليس مجرد خلاف سياسي يمكن حله بالمفاوضات، بل هو انعكاس لأزمة هوية وطنية عميقة. سكان دارفور وكردفان، الذين عانوا عقوداً من التهميش والإهمال، وجدوا أنفسهم أمام خيارين مريرين: إما القبول بدور المواطن من الدرجة الثانية، أو المطالبة بحكم ذاتي يضمن حقوقهم.
في المقابل، سكان وسط وشرق السودان، الذين اعتادوا على دورهم المهيمن في الدولة، يرفضون أي تغيير جذري في بنية السلطة. هذا التضارب في الرؤى خلق هوة عميقة قد تكون مستحيلة الردم.
مأساة السودان الحقيقية تكمن في أن كلا الطرفين يقاتل باسم “الوحدة الوطنية” بينما يعمل في الواقع على تدميرها. الجيش يدعي أنه يحارب “المتمردين” للحفاظ على الدولة، بينما قوات الدعم السريع تدعي أنها تقاتل “الإسلاميين المتطرفين” لتحقيق الديمقراطية.
الحقيقة المؤلمة هي أن السودان اليوم أصبح رهينة لصراع الأقوياء، سواء كانوا قادة عسكريين محليين أم قوى إقليمية ودولية لها مصالحها الخاصة. المواطن العادي، الذي كان يحلم بالحرية والكرامة في ثورة 2019، وجد نفسه اليوم بين نارين: نار الحرب في الشارع، ونار الانقسام في القلب.
منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز