في عام 1995، أطلقت الأمم المتحدة برنامج “النفط مقابل الغذاء” كمحاولة باهتة لتخفيف وطأة العقوبات على العراق، مدّعية أن الشعب لا يجب أن يدفع ثمن سياسات نظامه. لكن اليوم، في غزة، يبرز برنامج أكثر قتامة ومأساوية: “الكاميرا مقابل الدقيق”.
هذا ليس برنامجاً دولياً، بل هو صرخة فردية مدوية من صحفي فلسطيني، بشير أبو الشعر، يقاوم تحت وطأة حرب إبادة جماعية ومجاعة لا ترحم. في منشوره الموجع، يعلن بشير قراره باستبدال كاميرته، أداة مهنته وهويته، بكيس دقيق ليطعم أطفاله الجائعين.
هذا القرار ليس مجرد تبادل مادي، بل هو شهادة على انهيار الكرامة الإنسانية، واتهام صارخ لعالم تخلى عن مسؤوليته الأخلاقية.
الكاميرا، رمز الحقيقة وصوت المظلومين، تُختزل إلى سلعة للبقاء. هذا التحول يفتح أبواباً لتأملات فلسفية عميقة: ما الذي يدفع إنساناً للتخلي عن أداة وجوده المهني ليضمن بقاء أبنائه؟ كيف يمكن للصحافة أن تقاوم في ظل الجوع والموت؟ وما هي تداعيات هذا الواقع على مفهومي الإنسانية والعدالة؟ في هذا المقال، نغوص في أعماق هذه الأسئلة، مستلهمين من منشور بشير كمرآة تعكس مأساة غزة، ونستكشف الجوع كحالة وجودية، الصحافة كمقاومة ممزقة، والكرامة كصراع أخلاقي في مواجهة اليأس.
الجوع: إلغاء الإنسان
الجوع ليس مجرد نقص في الطعام، بل هو هجوم على جوهر الوجود البشري. الفيلسوف جان بول سارتر يرى أن الإنسان يُعرّف من خلال حريته في الاختيار، لكن في غزة، حيث يُسلب الفلسطيني حتى أبسط خياراته، يصبح الجوع سجناً وجودياً. بشير أبو الشعر، في منشوره، لا يواجه خياراً بين الكرامة والمهنة، بل معضلة أخلاقية مروعة: الكاميرا، رمز مقاومته، مقابل حياة أطفاله. هذا القرار يعكس ما وصفه إيمانويل كانط بالواجب الأخلاقي المطلق، حيث يصبح إنقاذ الأرواح فوق كل اعتبار، حتى لو كان الثمن هو التخلي عن الهوية.
لكن الجوع في غزة ليس مجرد حالة فردية، بل هو سلاح ممنهج. بشير يصف “الغلاء الفاحش” و”الاستغلال القذر” من قبل “مجرمي السيولة النقدية”، مما يكشف عن طبقات متعددة من الظلم: الاحتلال الذي يفرض الحصار، والاستغلال الداخلي الذي يتغذى على معاناة الضعفاء. هنا، نجد صدى لتحليلات ميشيل فوكو حول السلطة، حيث تتحول المجاعة إلى أداة للهيمنة، لا فقط من الخارج، بل أيضاً من خلال ديناميكيات داخلية تُعمّق اليأس. الجوع، إذن، ليس مجرد غياب الطعام، بل هو محو للإرادة، وتجريد للإنسان من إنسانيته.
الصحافة: بين المقاومة والضحية
الصحفي في غزة ليس مجرد ناقل للأخبار، بل هو حارس الحقيقة ومقاوم بالكلمة والصورة. الكاميرا بالنسبة لبشير هي أكثر من أداة؛ إنها امتداد لهويته كشاهد على جرائم الاحتلال. لكن عندما يضطر لاستبدالها بكيس دقيق، فإن ذلك يعني تجريده من دوره كصوت للحقيقة. هذا الواقع يطرح سؤالاً فلسفياً عميقاً: كيف يمكن للصحافة أن تظل أداة مقاومة عندما يُجبر الصحفي على التخلي عن أدواته ليبقى على قيد الحياة؟
يورغن هابرماس، في حديثه عن الفضاء العام، يرى أن الإعلام هو أساس النقاش العام والتوثيق التاريخي. لكن في غزة، ينهار هذا الفضاء تحت وطأة الحرب والجوع.
المؤسسات الإعلامية الدولية، كما يشير النص، تُعامل الصحفيين الفلسطينيين كـ”متعهدي خدمات”، تطالبهم بـ”اللقطة المؤثرة” و”الخبر العاجل” دون الاكتراث لظروفهم الإنسانية.
هذا التعامل يكشف عن تناقض إثيقي: كيف يمكن للعالم أن يطالب بتوثيق المعاناة بينما يتجاهل معاناة الموثّقين؟ تقارير دولية، مثل تلك الصادرة عن لجنة حماية الصحفيين، تؤكد أن غزة هي أخطر بيئة صحفية في العالم، لكن هذه الحقيقة لا تُترجم إلى دعم حقيقي للصحفيين الفلسطينيين، بل تُستبدل بالمطالبة المستمرة بالإنتاجية.
الكرامة: مقاومة اليأس
في منشوره، يكتب بشير: “مال حلال الحمد لله”. هذه العبارة ليست مجرد تأكيد على نزاهته، بل هي صرخة كرامة في وجه اليأس. حنة آرنت، في تأملاتها عن الإنسانية، ترى أن الكرامة تتجلى في قدرة الإنسان على الحفاظ على قيمه حتى في اللحظات الأكثر قتامة. بشير، بقراره استبدال الكاميرا، يختار حياة أطفاله، لكنه يدفع ثمناً باهظاً: فقدان جزء من هويته كصحفي. هذا التوتر بين الكرامة الشخصية والهوية المهنية يكشف عن مأساة غزة، حيث يُجبر الإنسان على التضحية بجوهره ليبقى على قيد الحياة.
الكرامة هنا ليست مجرد مفهوم، بل هي فعل مقاومة. عندما يرفض بشير “أي مساعدة من أحد” ويصر على الاستبدال بدلاً من التسول، فإنه يعيد تعريف الكرامة كشكل من أشكال التحدي. هذا يذكّرنا بفكرة نيتشه عن “إرادة القوة”، حيث يجد الإنسان قوته في مواجهة المعاناة من خلال التمسك باستقلاليته. لكن هذه الكرامة تأتي بثمن: التخلي عن الكاميرا يعني التخلي عن صوت بشير كشاهد على الحقيقة، مما يعكس الخسارة الجماعية للصوت الفلسطيني في ظل الحصار.
تداعيات عالمية: تواطؤ المنظومة الدولية
منشور بشير ليس مجرد صرخة فردية، بل هو اتهام للمنظومة الدولية التي تخلت عن الفلسطينيين. برنامج “النفط مقابل الغذاء” كان محاولة رمزية للتخفيف من معاناة العراقيين، لكنه كشف عن حدود التدخلات الدولية التي تخدم الأجندات السياسية. في غزة، لا توجد حتى هذه المحاولات. المجاعة، كما يصفها بشير، هي نتيجة حصار ممنهج وتواطؤ دولي يسمح باستمرار الإبادة. جورجيو أغامبين، في مفهومه عن “الحياة العارية”، يصف الإنسان المُختزل إلى مجرد كائن بيولوجي، محروم من حقوقه السياسية والاجتماعية. الفلسطينيون في غزة، كما يظهر من منشور بشير، يُعاملون كـ”حياة عارية”، حيث يُسلب منهم الحق في الطعام، الأمان، وحتى الصوت.
المنظمات الدولية، التي يُفترض أنها حامية الحقوق، فشلت في الضغط على الاحتلال لضمان حماية الصحفيين أو توفير المساعدات الإنسانية. هذا الفشل يطرح سؤالاً فلسفياً: ما قيمة القوانين الدولية إذا كانت غير قادرة على حماية الأرواح؟ وما معنى “الإنسانية” إذا كانت تسمح بموت أطفال أمام أعين آبائهم؟
بشير أبو الشعر، من خلال منشوره، يعيد تعريف البطولة. البطل هنا ليس من يحمل السلاح، بل هو الأب الذي يواجه خياراً مستحيلاً ويختار حياة أطفاله. الكاميرا، التي كانت أداة مقاومته، تصبح رمزاً للتضحية. هذا التحول يكشف عن عمق المأساة في غزة، حيث يُجبر الإنسان على التخلي عن هويته ليبقى على قيد الحياة. منشور بشير ليس مجرد نداء للبقاء، بل هو وثيقة تاريخية تُدين العالم بصمته، وتدعو إلى إعادة التفكير في مفاهيم الكرامة، المقاومة، والإنسانية. إنه صوت إنسان يقاوم، ليس فقط الاحتلال، بل اليأس نفسه، ويطالبنا بأن نرى فيه ليس فقط صحفياً جائعاً، بل رمزاً لصمود شعب يرفض أن يُمحى.
منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز