تواجه غزة أزمة إنسانية متفاقمة لا يمكن اختزالها في إطار الفقر أو الأزمات المالية التقليدية، بل هي أزمة مفتعلة بشكل ممنهج من قبل الاحتلال الإسرائيلي، تهدف إلى تجويع السكان وخنقهم اقتصاديًا. تتجلى هذه الأزمة في نقص حاد في المواد الأساسية، وارتفاع جنوني في الأسعار، وتعطيل متعمد لدخول المساعدات الإنسانية، مما يجعل الحياة اليومية لسكان غزة كفاحًا مستمرًا من أجل البقاء. حتى لو كان لدى الفرد في غزة مبلغ مالي كبير، مثل 10 آلاف دولار، فإنه لن يتمكن من شراء كيلو لحم واحد بسبب عدم توفره أصلًا، نتيجة الحصار المفروض على القطاع.
هذا الواقع يدفع السكان إلى اللجوء إلى طرق بديلة للتعامل والتبادل، مثل المقايضة، في ظل ندرة النقد وصعوبة الوصول إلى الأموال عبر البنوك. بالإضافة إلى ذلك، فإن فراغ الأسواق وتصرفات المبادرين، رغم نواياهم الطيبة، يساهمان في تفاقم الأزمة، مما يتطلب حلولًا عاجلة لتخفيف المعاناة.
الأزمة المفتعلة من الاحتلال: تجويع ممنهج
تُعتبر الأزمة في غزة نتيجة مباشرة لسياسات الاحتلال الإسرائيلي التي تستهدف تجويع السكان وتدمير اقتصادهم. فمنذ بدء الحرب في أكتوبر 2023، فرضت إسرائيل حصارًا مشددًا على القطاع، مما أدى إلى منع دخول المساعدات الإنسانية والمواد الأساسية، بما في ذلك الغذاء والوقود والأدوية. وفقًا لتصريحات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، فإن الحصار الإسرائيلي على غزة أدى إلى “نفاد سريع في الإمدادات الإنسانية الأساسية”، مما يهدد حياة الملايين. وفي تصريح للمفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، أكد أن “الناس الذين يعانون من الجوع يوقفون شاحنات المساعدات” في غزة، مما يعكس مدى اليأس والحاجة الملحة للمواد الغذائية.
من جانبها، أدانت حركة حماس هذه السياسات، واصفة تصريحات المسؤولين الإسرائيليين والغربيين بأنها تسعى لـ”ترهيب شعوب الأمة”، وتمنح إسرائيل “غطاءً لارتكاب مجازر وجرائم حرب”. وتُظهر الإحصائيات مدى التعطيل المتعمد للمساعدات، حيث لم يدخل إلى غزة سوى 906 شاحنات مساعدات منذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح وحتى 29 نيسان 2025، وهو رقم ضئيل جدًا مقارنة بالاحتياجات الفعلية للقطاع الذي يعاني من حصار شامل.
ارتفاع الأسعار ونقص المواد الأساسية
تسبب الحصار في ارتفاع جنوني لأسعار المواد الأساسية، حيث زادت الأسعار بنسبة تصل إلى 4000% في بعض الحالات. هذا الارتفاع ليس نتيجة عوامل اقتصادية طبيعية، بل هو نتيجة مباشرة لمنع دخول الشاحنات التي تحمل المساعدات والمواد الغذائية. على سبيل المثال، حتى لو كان لدى شخص في غزة 10 آلاف دولار، فإنه لن يتمكن من شراء كيلو لحم بسبب عدم توفره في الأسواق. ناهيك عن الأُمور الرئيسية فالعائلات لا تستطيع العثور على الدقيق.
طرق التعامل بين الغزيين في ظل الأزمة
في ظل هذه الأزمة الخانقة، اضطر سكان غزة إلى ابتكار طرق بديلة للتعامل والتبادل لتلبية احتياجاتهم الأساسية، وهي تشمل:
🟥 الكاش (التعامل النقدي)
أصبح التعامل بالنقد نادرًا جدًا بسبب نقص السيولة وصعوبة الوصول إلى الأموال. الكثير من الأشخاص يمتلكون أموالًا في حساباتهم البنكية، لكنهم لا يستطيعون سحبها بسبب العمولات المرتفعة التي تصل إلى 50%.
على سبيل المثال، إذا أراد شخص سحب 1000 دولار من حسابه في بنك فلسطين، فإنه يضطر إلى تحويل 1000 دولار من حسابه إلى حساب شخص آخر يملك نقدًا، والذي بدوره يعطيه 500 دولار نقدًا فقط، مما يعني خسارة نصف المبلغ. هذا النظام يشبه التعامل بالربا ويضع عبئًا ماليًا إضافيًا على السكان.
🟥 التطبيق (تطبيق بنك فلسطين)
يستخدم العديد من الغزيين تطبيق بنك فلسطين لإجراء التحويلات المالية، لكن هذه الطريقة تواجه تحديات كبيرة بسبب عدم القدرة على تحويل الأموال إلى نقد بسهولة. الناس يمتلكون أموالًا في حساباتهم، لكن لا يمكنهم استخدامها لشراء المواد الأساسية بسبب نقص النقد في الأسواق، مما يجعل هذه الأموال “محبوسة” عمليًا.
🟥 المقايضة
أصبحت المقايضة وسيلة شائعة لتبادل السلع بين السكان في ظل نقص المواد الأساسية. على سبيل المثال، قد يقوم شخص بتبادل كيلو من السكر بكيلوين من الطحين، أو استبدال حفاضات الأطفال (بامبرز) بالطحين. هذه الطريقة تعكس مدى اليأس والحاجة الملحة للسكان لتأمين احتياجاتهم الأساسية في ظل غياب النقد والموارد.
فراغ الأسواق ودور المبادرين
تعاني أسواق غزة من فراغ شبه تام في البضائع، حيث أصبح رصيدها صفريًا تقريبًا بسبب عدم دخول الشاحنات التي تحمل المواد الأساسية نتيجة الحصار المفروض. هذا النقص تفاقم بسبب تصرفات بعض المبادرين الذين، عن غير قصد، يساهمون في استنزاف المخزون المحدود المتوفر. على سبيل المثال، يقوم هؤلاء المبادرون بشراء كميات كبيرة من المواد مثل المعكرونة والصلصة لإطعام النازحين في المخيمات. ولإنجاز هذا العمل الخيري بسرعة، يدفعون للتجار الأسعار التي يطلبونها، حتى لو كانت مرتفعة جدًا، بهدف تقديم دليل للممولين على تنفيذ هذا الفعل الإنساني.
لكن هذا السلوك يؤدي إلى نتيجة عكسية:
🟥 استنزاف المخزون: الكميات القليلة المتوفرة في الأسواق تُشترى بالكامل، مما يترك السوق فارغًا.
🟥 التعامل المبطن: يفضل التجار التعامل مع المبادرين فقط لأنهم يدفعون مبالغ مرتفعة دون تفاوض، مما يحرم السكان العاديين من الوصول إلى هذه المواد.
مشكلة التكيات (موائد الطعام الجماعية)
التكيات، وهي موائد طعام جماعية تُقام لإطعام النازحين، كانت تهدف إلى تخفيف معاناة السكان، لكنها أصبحت سببًا كبيرًا في تفاقم أزمة البضائع وسوء استخدام الموارد. المشاكل الناتجة عنها تشمل:
🟥 سوء الاستخدام والجودة:
بسبب قلة الخبرة في طبخ كميات كبيرة، يصبح طعم الطعام غير مناسب وغير صالح للأكل، حتى بالنسبة للجوعى الذين لا يستطيعون تجرعه، هذا يؤدي إلى إهدار المواد الغذائية القليلة المتوفرة.
🟥 التلوث:
أثناء الطبخ في أواني كبيرة (مثل الدست أو الجاط)، تمتد أيادي كثيرة للمساعدة أو التقليب، مما يزيد من مخاطر التلوث وانتشار الأمراض.
🟥 التدافع والحوادث:
يحدث تدافع شديد بين الناس للحصول على الطعام، وقد تكررت حوادث مأساوية مثل سقوط أطفال في الأواني الساخنة، مما أدى إلى وفاتهم حرقًا بسبب سخونة القِدر.
🟥 الإهدار بسبب الأخذ الزائد:
خوفًا من الجوع، يأخذ الناس كميات أكبر من حاجتهم، لكن بسبب رداءة جودة البضائع وصعوبة نقل الطعام لمسافات طويلة (من قدر إلى قدر)، يتلف الطعام بسرعة ويصبح غير صالح للاستهلاك.
الأزمة في غزة ليست مجرد أزمة اقتصادية أو فقر، بل هي أزمة مفتعلة من قبل الاحتلال الإسرائيلي بهدف تجويع السكان وخنقهم اقتصاديًا. سياسات الحصار، ومنع دخول المساعدات، وتعطيل حركة الشاحنات على المعابر، كلها عوامل تؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني وتجعل الحياة في غزة شبه مستحيلة. الارتفاع الجنوني في الأسعار ونقص المواد الأساسية يجبران السكان على اللجوء إلى طرق بديلة للتعامل، مما يزيد من معاناتهم اليومية. بالإضافة إلى ذلك، فإن فراغ الأسواق وتصرفات المبادرين والتكيات تساهم في استنزاف الموارد وتفاقم الأزمة. من الضروري أن يتخذ المجتمع الدولي إجراءات عاجلة لرفع الحصار عن غزة وفتح المعابر لدخول المساعدات الإنسانية، وأن يتم توزيع المواد الغذائية بشكل يضمن الكفاءة والسلامة لتخفيف الأزمة وإنقاذ حياة الملايين من سكان القطاع.
منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز