يُطرح في الأوساط الفكرية المعاصرة تساؤل عميق حول علاقة الإيمان بالنصر، وحول حكمة الله في تأخير النصر أحياناً رغم صدق المؤمنين وقوة إيمانهم. هذا التساؤل ليس وليد اللحظة، بل هو تساؤل تكرر عبر التاريخ الإنساني، وتجلى بوضوح في أحداث غزة وسوريا المعاصرة، وفي صفحات التاريخ الإسلامي من بدر إلى أحد. إن فهم هذه المسألة يتطلب نظرة شاملة تربط بين النصوص القرآنية والسنن الكونية والوقائع التاريخية.
طبيعة النصر الإلهي وشروطه
الوعد الإلهي بالنصر: حقيقة راسخة
إن الله سبحانه وتعالى قد وعد المؤمنين بالنصر في كتابه العزيز، وهذا الوعد ليس مجرد كلمات تُقال، بل هو حقيقة راسخة مرتبطة بالعدالة الإلهية المطلقة. يقول الله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، وهذا النص يؤكد أن النصر حق للمؤمنين، لكنه مشروط بشروط محددة ومرتبط بحكم إلهية عميقة.
النصر في المفهوم الإسلامي ليس مجرد غلبة عسكرية أو سياسية، بل هو منظومة متكاملة تشمل النصر المبدئي والأخلاقي والروحي قبل النصر المادي. فالمؤمن الذي يموت في سبيل مبدئه محققاً للشروط الإيمانية هو منتصر حتى لو لم ينتصر بالمقياس التقليدي. هذا المفهوم يوضح لنا أن النصر الحقيقي يتجاوز المظاهر الخارجية ليصل إلى جوهر المعركة بين الحق والباطل.
الشروط الجوهرية للنصر
تُظهر النصوص القرآنية أن النصر مرتبط بشروط أساسية لا يمكن تجاوزها. الإيمان الصادق يأتي في المقدمة، حيث يقول تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، مما يعني أن نصرة الدين بالعمل والجهاد شرط أساسي للحصول على النصر الإلهي.
إن الاستعداد والإعداد من الشروط الضرورية أيضاً، فالله لا ينصر من يتواكل ويترك الأسباب المادية. كما أن الطاعة والانضباط شرط حاسم، وهو ما تجلى بوضوح في غزوة أحد عندما خالف الرماة أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، مما أدى إلى تحول النصر إلى هزيمة. هذا الدرس التاريخي يؤكد أن العصيان والتنازع من أعظم أسباب تأخر النصر.
سنة التداول الكوني والتوازن الإلهي
تداول الأيام كسنة كونية
إن من أعظم السنن الكونية التي أشار إليها القرآن الكريم سنة تداول الأيام بين الناس، حيث يقول تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. هذه السنة ليست عشوائية أو جزافية، بل هي نظام محكم يحكم الصراع بين الحق والباطل عبر التاريخ.
إن هذا التداول يحمل حكماً عديدة منها: منع البطر والغرور من جانب المنتصرين، والتمحيص والاختبار للمؤمنين، وإتاحة الفرصة للتوبة والإنابة للمهزومين. كما أن هذا التداول يحقق التوازن الكوني ويمنع هيمنة طرف واحد على الأرض بشكل مطلق، مما يحافظ على استمرارية الحياة وتنوعها.
التوازن في النظام الكوني
إن الله سبحانه وتعالى قد بنى كونه على نظام التوازن الدقيق، من الذرة إلى المجرات. هذا التوازن يشمل التوازن المادي في حركة الكواكب والنجوم, والتوازن البيولوجي في النظم الإيكولوجية، والتوازن الاجتماعي بين القوى المختلفة في المجتمع الإنساني.
إن هذا التوازن الكوني يفسر لنا لماذا لا يُترك الباطل ليهيمن بشكل مطلق، ولماذا لا يُمكّن للحق بشكل نهائي في الدنيا. فلو هيمن أحد الطرفين تماماً لاختل التوازن الكوني ولتوقفت عجلة الحياة. هذا يعني أن استمرار الصراع بين الحق والباطل أمر ضروري لاستمرار النظام الكوني ذاته.
حكمة الابتلاء وتأخير النصر
الابتلاء كضرورة إيمانية
إن الابتلاء في المفهوم القرآني ليس مجرد عذاب أو عقوبة، بل هو منهج تربوي إلهي يهدف إلى تمحيص المؤمنين وترقيتهم في درجات الإيمان. يقول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
الابتلاء يحقق عدة أهداف أساسية: التمييز بين المؤمن الصادق والمنافق، ورفع درجات المؤمنين في الآخرة، وتقوية الإيمان من خلال الصبر والاحتساب. إن المؤمن في ابتلائه يختلف جذرياً عن الكافر، فالأول يرجو ما عند الله بينما الثاني لا يرجو شيئاً بعد الموت.
تأخير النصر كلطف إلهي
إن تأخير النصر أحياناً هو في حقيقته لطف بالمؤمنين وليس تخلياً عنهم. هذا التأخير يحمل حكماً عديدة منها: إعداد المؤمنين إعداداً أكمل للنصر، وتمحيص الصفوف من المنافقين، وإظهار معجزات الصبر والثبات، واتخاذ الشهداء الذين يرفعون درجة الأمة كلها.
كما أن هذا التأخير قد يكون مكراً بالأعداء الذين يغترون بنصرهم المؤقت فيزدادون في الظلم والفساد، مما يجعل عذابهم أشد عند نزول النصر الإلهي الحاسم. إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، كما ورد في الحديث الشريف.
الدروس التاريخية: من بدر إلى أحد
غزوة بدر: النموذج المثالي للنصر
تُعتبر غزوة بدر نموذجاً مثالياً لتحقق شروط النصر الإلهي. فقد اجتمع فيها الإيمان الصادق والطاعة الكاملة والإعداد المناسب والتوكل على الله. رغم قلة عدد المسلمين وضعف عُدتهم، إلا أن توفر الشروط الإيمانية أدى إلى نصر حاسم أذهل الأعداء والأصدقاء معاً.
إن الدرس الأساسي من بدر هو أن القوة المعنوية قد تتفوق على القوة المادية عندما تكون مستندة إلى إيمان صحيح وعقيدة راسخة. كما أن الوحدة والانضباط تحت القيادة الرشيدة من أهم عوامل النصر، وهو ما تجلى في رفض النبي صلى الله عليه وسلم لمشاركة المشركين في المعركة حتى لو كانوا مؤيدين.
غزوة أحد: دروس في أسباب الهزيمة
تقدم غزوة أحد دروساً عميقة في أسباب تأخر النصر وتحوله إلى هزيمة مؤقتة. فبعد أن بدأت المعركة بنصر واضح للمسلمين، تحولت إلى هزيمة جزئية بسبب مخالفة الأوامر من قِبل الرماة الذين تركوا مواقعهم طمعاً في الغنائم.
إن الدروس المستفادة من أحد تشمل: أهمية الطاعة المطلقة للقيادة، وخطر التنازع والاختلاف في اللحظات الحرجة، وضرورة عدم الاغترار بالنصر المبكر. كما تُظهر الغزوة أن الهزيمة المؤقتة قد تحمل منافع كبيرة في تربية المؤمنين وتقوية إيمانهم وإعدادهم للمعارك القادمة.
الشواهد المعاصرة: غزة وسوريا
غزة: نموذج الصمود الإيماني
تُقدم غزة في الوقت المعاصر نموذجاً فريداً للصمود الإيماني في وجه الظلم والعدوان. رغم الحصار والقصف والدمار، إلا أن أهل غزة أظهروا مستوى استثنائياً من الثبات العقائدي والصبر على البلاء والثقة بالله.
إن صمود غزة يجسد المعنى الحقيقي لقول المؤمنين في غزوة الأحزاب: “الله مولانا ولا مولى لكم”. هذا الصمود لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتاج تربية إيمانية عميقة امتدت لعقود، شملت التعليم الديني والتربية في المساجد ووجود القدوات المضحية.
إن الدرس الأساسي من غزة هو أن العقيدة الصحيحة تُنتج طاقات للتحمل والعمل لا توجد عند غيرها. فالذي يحمل معنى “الله مولانا” في قلبه لا يعرف اليأس ولا الانكسار، لأنه يعلم أن النصر والهزيمة بيد الله، وأن العاقبة للمتقين.
سوريا: الابتلاء والتمحيص
تُمثل سوريا مثالاً آخر على سنة الابتلاء والتمحيص في الأمة. فقد مرت بسنوات طويلة من الحرب والدمار، والتي كشفت حقائق كثيرة وميزت بين الصادق والكاذب في دعوى الإيمان والجهاد. هذا الابتلاء، رغم قسوته، حمل معه دروساً عميقة في أهمية الوحدة وخطر التشرذم وضرورة تنقية الصفوف.
إن التجربة السورية تؤكد أن الابتلاء قد يطول ولكنه لا يدوم، وأن الأمة تخرج منه أقوى وأنقى إذا احتسبت ما تمر به عند الله. كما تُظهر أن التدخل الخارجي والاختلافات الداخلية من أهم عوامل إطالة البلاء وتأخير الفرج.
الشواهد التاريخية: خروج اليهود من البلاد العربية
النموذج المصري والعراقي
تُقدم تجربة خروج اليهود من مصر والعراق في القرن العشرين مثالاً تطبيقياً على سنة التداول في التاريخ. فبعد قرون من العيش في هذه البلدان، شهدت الفترة من 1948 إلى 1960 موجة كبيرة من الهجرة اليهودية إلى إسرائيل.
في العراق، غادر حوالي 120 ألف يهودي بين 1950-1951 في عملية “تسقيط الجنسية”، بينما في مصر تدرجت الهجرة من 1948 حتى 1961. هذا الخروج لم يكن نتيجة إجبار مباشر فحسب، بل كان نتيجة تضافر عوامل عديدة شملت الضغوط السياسية والتغيرات الاقتصادية والدعاية الصهيونية وتغير المزاج الشعبي.
دلالات التداول التاريخي
إن هذا المثال يوضح كيف تعمل سنة التداول في التاريخ، حيث أن الجماعات التي كانت متمكنة اقتصادياً ومؤثرة سياسياً لقرون، وجدت نفسها مضطرة للرحيل عندما تغيرت الظروف. هذا يؤكد أن لا دوام لحال في هذه الدنيا، وأن الله يداول الأيام بين الناس وفق حكمته وعدالته.
كما يُظهر هذا المثال أهمية الهوية الحقيقية في مواجهة التحديات. فاليهود الذين اختاروا الهوية الصهيونية على الهوية الوطنية وجدوا أنفسهم مضطرين للرحيل، بينما من تمسك بالانتماء الوطني الحقيقي استطاع البقاء والاستمرار.
قوانين النصر في ضوء التوازن الكوني
النصر والتوازن الطبيعي
إن فهم طبيعة النصر يتطلب فهماً عميقاً لقوانين التوازن في الكون. فالله سبحانه وتعالى لم يخلق الكون ليهيمن عليه طرف واحد بشكل مطلق، بل وضع قوانين تضمن استمرارية التدافع بين القوى المختلفة. هذا التدافع ضروري لاستمرار الحياة نفسها، كما يقول تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}.
إن هذا المبدأ يفسر لنا لماذا لا يُمكّن للمؤمنين تمكيناً مطلقاً في الدنيا، ولا يُترك للكافرين ليفسدوا فساداً مطلقاً. فكل من الحالتين تُخل بالتوازن الكوني وتؤدي إلى فساد النظام الطبيعي للأشياء.
القيامة وانتهاء التوازن
إن المؤشر على قرب قيام الساعة هو اختلال هذا التوازن بشكل جذري، عندما يُرفع الإيمان من الأرض ويهيمن الكفر هيمنة مطلقة. عند هذه النقطة، تفقد الحياة الدنيا مبرر استمرارها، إذ أن الحكمة من خلق الإنسان – وهي الابتلاء والاختبار – تصبح منتفية.
هذا يعني أن استمرار الصراع بين الحق والباطل، وتداول الأيام بينهما، هو في حقيقته ضمان لاستمرار الحياة الإنسانية على الأرض. إن انتصار القلة المؤمنة في هذا السياق ليس مرتبطاً بصلاح المجتمع أو فساده، بل بقوانين قدرها الله في الصراع الأزلي بين الحق والباطل.
الفرج بعد الشدة: السنة الإلهية الثابتة
أمثلة قرآنية على الفرج
إن القرآن الكريم مليء بالأمثلة على سنة الفرج بعد الشدة، من يوسف عليه السلام الذي انتقل من غيابة الجب وضيق السجن إلى سعة الملك، إلى موسى عليه السلام الذي نجا مع بني إسرائيل من فرعون وجنوده. هذه الأمثلة تؤكد أن الفرج مقترن بالشدة وأن مع العسر يسراً.
إن هذه السنة ليست مجرد وعد للتسلية، بل هي قانون كوني ثابت يحكم حركة التاريخ. فالشدة لا تدوم، والضيق يعقبه السعة، والظلم يعقبه العدل، وذلك وفق توقيت إلهي دقيق لا يتقدم ولا يتأخر.
علامات اقتراب الفرج
إن من علامات اقتراب الفرج اشتداد البلاء إلى درجة يقول فيها المؤمنون: “متى نصر الله”، فيأتي الجواب: “ألا إن نصر الله قريب”. هذا الاشتداد ليس علامة على غضب الله أو تخليه عن المؤمنين، بل هو علامة على اقتراب لحظة التغيير الكبير.
كما أن من علامات اقتراب الفرج ظهور المعجزات في الصمود وتماسك المؤمنين رغم الشدائد وبداية تفكك جبهة الأعداء من الداخل. هذه العلامات نراها بوضوح في الواقع المعاصر، مما يبشر بقرب تحقق الوعد الإلهي بالنصر.
نحو فهم عميق للنصر الإلهي
إن فهم موضوع النصر والابتلاء في الفكر الإسلامي يتطلب نظرة شاملة تربط بين النصوص القرآنية والسنن الكونية والوقائع التاريخية والمعاصرة. فالله سبحانه وتعالى لم يعد المؤمنين بالنصر عبثاً، ولكنه ربط هذا الوعد بشروط وسنن لا تتغير ولا تتبدل.
إن تأخير النصر أحياناً ليس دليلاً على تخلي الله عن المؤمنين، بل هو جزء من منهج التربية الإلهي الذي يهدف إلى إعداد جيل قادر على حمل الأمانة وتحقيق الاستخلاف في الأرض. كما أنه جزء من نظام التوازن الكوني الذي يضمن استمرارية الحياة والابتلاء.
إن الأمثلة المعاصرة من غزة وسوريا، والدروس التاريخية من بدر وأحد وغيرها، والشواهد على تداول الأيام عبر التاريخ، كلها تؤكد أن سنن الله لا تتغير وأن وعده لا يُخلف. المطلوب من المؤمنين هو الصبر والثبات والعمل بالأسباب مع التوكل على الله، والثقة المطلقة بأن النصر آت لا محالة، وأن العاقبة للمتقين.
إن هذا الفهم العميق لطبيعة النصر الإلهي يحرر المؤمن من قلق التعجل ووهم الضعف ووسوسة الشكوك، ويجعله يعيش في سكينة الإيمان وطمأنينة اليقين، عالماً أن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وهذا هو جوهر الرد على كل من يشكك في وعد الله بنصرة المؤمنين، فالله لا يُخلف الميعاد، ولكن النصر يأتي وفق سننه وتوقيته الحكيم.
منصة مستقلة من صحفيين في غزة وسوريا، تنقل الحقيقة كما هي، وتُظهر زوايا مغفلة من قلب الحدث. نرفض التبعية والتضليل، ونلتزم بمهنية تضع المتابع أمام صورة الواقع بلا تجميل ولا انحياز